كيف تتعايش مع ذنوبك؟ حامد الإدريسي

رابعا: النصر قريب والحرب مستمرة 

عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مثل المؤمن كمثل الخامة من الزرع تفيئها الرياح، تصرعها مرة وتعدلها، حتى يأتيه أجله، ومثل المنافق مثل الأرزة المجذية، التي لا يصيبها شيء حتى يكون انجعافها مرة واحدة.
إن معركة الذنوب معركة طويلة الأمد، فعلى العاقل أن يطيل النفس، ويكثر الذخيرة، ويركب عزمه ويجنب يأسه، فليست معركة الذنوب معركة تحسمها في يوم وليلة، إنها معركة متجددة، سجال؛ يوم لك ويوم عليك، فلا تنظر لذنوبك إلا كعدو يتربص بك أن تضع سلاحك فيميل عليك ميلة واحدة، فابعث عليه عيون الحيطة والحذر، وتترس منه بحصن الدعاء، واحمل عليه بعساكر الاستغفار، واسدد عليه منافذ إمدادات الهوى والشهوة التي يتقوى بها عليك، واقطع عليه مجاريه بالصوم، واستعد للهزائم المتكررة التي يعقبها النصر والظفر، فلا معركة بدون قتلى، ولا نصر بدون جراحات.
واحذر كل الحذر أن تُسكن العدو أرضك، وتضع له سلاحك، فإنه لن يرضى إلا باستباحة بيضتك، وإهلاك حرثك ونسلك، وإفساد أمرك كله، حتى يكبك في نار جهنم، ويسقيك مرارة الهزيمة في الدنيا قبل الآخرة، ويجعلك عبرة للمعتبرين، ويحقق وعده الأثيم: (قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين)؛ (لأحتنكن ذريته إلا قليلا).
فإياك والاستسلام، فإن عدوك ضعيف، وربُّك إلى جانبك، ينتظر دمعة صادقة منك، وسجدة خاشعة بين يديه، ليقلب عليه الموازين، ويجعلك من عباده المخلصين، الذين قال عنهم: (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان)، وهذه هي قوة المؤمن، فكم من شيطان رجيم قضى حياته في الإضلال والإغواء، وأسهر ليله وسوسة، ونهاره تزيينا وتلبيسا، فما إن جاءت جيوش التوبة، حتى صغر كأنه الجعل، وولى وله ضراط، وخاب أيما خيبة، وذهبت جهوده أدراج الرياح.
الحرب سجال؛ فلا يبطرك النصر، ولا تذلك الهزيمة، واثبت على خيول التوبة عسى أن يأتيك الظفر إن شاء الله.

خامسا: انظر إلى الجانب الآخر للذنب
عندما تقع في الذنب، فإن هناك جانبان، جانب أنك عصيت وأخطأت، وجانب أنك استغفرت وأنبت، فعليك أن تنظر بعد الذنب إلى رحمة الله، وتنظر قبل الذنب إلى غضب الله، وتذكر دائما أن رحمته سبقت غضبته، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لما قضى الله تعالى الخلق كتب بيده في كتاب عنده غلبت أو قال سبقت رحمتي غضبي فهو عنده فوق العرش).
واعلم أن الله عز وجل كتب عليك الذنب، وأوجب عليك الاستغفار منه، فاعمل ما أوجب الله عليك، عساه أن يغفر لك كما غفر لعبد قال عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن عبدا أصاب ذنبا فقال: رب أذنبت فاغفر لي، فقال ربه: علم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به، غفرت لعبدي، ثم مكث ما شاء الله ثم أصاب ذنبا فقال: رب أذنبت ذنبا آخر فاغفر لي، فقال: علم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به، قد غفرت لعبدي، ثم أصاب ذنبا فقال: رب أذنبت ذنبا آخر فاغفر لي، قال: علم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به، قد غفرت لعبدي فليفعل ما شاء).
سادسا: اتبع الداء الدواء {إن الحسنات يذهبن السيئات}
هناك منطق تدافع بين الحسنات والسيئات، وفي النهاية ينجو من غلبت حسناته وإن كانت سيئاته كثيرة، ويهلك من غلبت سيئاته وإن كانت حسناته كثيرة. وقد لا تكون إلا سيئة واحدة تغلب كل تلك الحسنات، كالشرك الذي يحبط العمل، وقد تغلب حسنة واحدة كل تلك السيئات، كبطاقة لا إله إلا الله.
قال تعالى: (أقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين)؛ وقال سبحانه: (ادفع بالتي هي أحسن السيئة) أي ادفع السيئة بالتي هي أحسن منها، وهي الحسنة، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن).
إن هذا الحل من أنفع الحلول التي تدفع بها السيئات، إن لم يتمكن الإنسان من دفعها بالتقوى التي تقيه من الوقوع فيها، أو التوبة التي تمنعه من الرجوع إليها، فيحتال في دفعها عنه بمقاومتها بالحسنات، وذلك من خلال تقدير حسنة توازي سيئته التي عملها، فينظر في عمل يراه عظيما، ويحس أن أجره كبير، فيجعله جزاء سيئته، ويتبعه إياها كلما عملها.
ولنضرب لذلك مثلا رجلا ابتلاه الله بالكذب، فينظر في حاله ويرى أن تخلصه من هذا الداء قد أرهقه، ويعزم على التصدق بعشر قطع نقدية كلما كذب كذبة، ويأتي في آخر النهار، يعد كذباته، ويعد دراهمه، فيتصدق على قدر تلك الكذبات، بما تحصل في نفسه أنه مواز لها، جزاء مثل ما قتل من النعم.
وهذا الرجل سيفوز في النهاية ولا شك، لأن الحسنة تدور بعداد العشر إلى السبع مائة، والسيئة تدور بعداد الواحد، وفي هذا يروي لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن ربه تعالى أنه قال: (إن الله كتب الحسنات والسيئات ثم بيّن: فمن همّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن همّ بها فعملها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمئة ضعف، وإن همّ بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن همّ بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة) رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما.
هذا الدواء لا يمحو السيئة فحسب، بل الصدقة تطفئ غضب الرب، وتجلب رضاه، ومتى رضي عنك، عصمك من الذنب، ومنَّ عليك بالهداية.
فإن أنت عجزت عن مقاومة الذنب، فلا تعجز عن اتباعه بحسنة ماحية للذنب مرضية للرب، جالبة لحسنة مثلها، فالحسنة تدعو أخواتها، كما أن السيئة تدعو أخواتها، فإن أنت استكثرت من السيئات، فاجعل كفة ميزان حسناتك ملئى، وإياك أن تأتي يوم القيامة وكفة السيئات تغلب كفة الحسنات، مع ما بينا من المضاعفة في الحسنات وعدم المضاعفة في السيئات، فتستحق بذلك الخسران المبين، وكيف لا وأنت أتيت بمقابل كل حسنة عشرا من السيئات أو أكثر!
هذه ذنوبك عن يسارك متشبثة بك بخيط رقيق، فاقطعه بالتوبة، وإن لم تفعل فتعايش معها، واصبب عليها ماء الحسنات يذهب أثرها، وينظف مكانها في القلب، ولا تتركها ترعى يمنة ويسرة، فتأكلك أكلا شديدا، وتأسرك أسرا عتيدا، في مقابل لذة عابرة تجني بها سخط الرب، وشقاء المعيشة، وسوء المنقلب، وضيق الحفرة في المقبرة، وعَرَقا يلجمك في عرصة يوم القيامة، ونارا تشويك في جوار أراذل الناس أحقابا.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *