كتبتُ رسالة مقتضبة في 39 صفحة في موضوع التأديب بالضرب، ويشرفني عرضها لأول مرة على قراء جريدة السبيل الكرام في أجزاء مع خالص التحية لأسرة الجريدة.
لماذا هذه الرسالة؟
عاش قطاع التربية والتعليم بالمغرب في الفترة الأخيرة ارتباكا واضحًا من خلال المخططات غير الممنهجة والمفتقرة لكثير من الاحترافية، والبعيدة كل البعد عن الغايات التربوية التي يسعى إليها هذا القطاع. فصارت تصدر بين الآونة والأخرى مذكرات وزارية زجرية ارتجالية، تحاول البحث عن حلول لمشاكل طارئة بالقطاع، لكنها للأسف كانت تزيد طين التعليم بلّة، لبعدها عن الواقعية، ولسعيها الحثيث لتقزيم دور المعلم على حساب المتعلّم، حتى استأسد هذا الأخير، وبات يصول ويجول بالفصول وكأنّه لؤلؤة زمانه التي يُمنع لمسها، وإن كان خلاف ذلك. ومن هذه المذكرات المذكرة الوزارية رقم 99/ 807. الصادرة بتاريخ 23شتنبر 1999. والتي نصّها:
سلام تام بوجود مولانا الإمام المؤيد بالله.
وبعد؛ فقد توافد على مصلحة الشؤون التربوية عدد كبير من الآباء والأمهات يشتكون من العقاب البدني الذي تعرض له أبناؤهم داخل المؤسسات التعليمية، سواء من طرف الأساتذة أو من طرف بعض أطر الإدارة التربوية.
ومعلوم أن العقاب البدني لا يمكن أن يكون وسيلة تربوية ناجعة لتعديل السلوك بسبب الآثار السلبية التي يتركها في نفسية التلميذ، سواء على المدى القريب أو البعيد، والحقد الذي يمكن أن يتولد لديه تجاه المدرسة والمدرسين، مما يخلق أحيانا ردود أفعال مختلفة ضدهم من طرف الأطفال وأوليائهم.
وعليه فإنني أذكر بمحتوى المذكرة الوزارية المشار إليها في المرجع أعلاه، وأطلب من السادة المدرسين ورجال الإدارة التربوية اجتناب أي شكل من أشكال العنف الجسدي أو النفسي ضد التلاميذ واللجوء إلى الأساليب التربوية الحديثة لتقويم سلوكهم. والسلام. اهــ
أعقب هذه المذكرة مذكرات أخرى تمنع منعا باتًا استعمال الضرب كوسيلة عقابية، والاستعاضة عنها بعقوبات بديلة تحقق نفعًا للمؤسسة، حتّى أنه تواترت الأخبار بتوصل بعض المعلمين بإنذارات بسبب استعمالهم (للعصا) بغضّ النظر عن وجود شطط في استعمالها أو عدمه، فهي (كأداة) صار وجودها كوجود مادة مخّدرة، محظورٌ تداولها، مجرّمٌ استعمالها!!
حقيقة استفزتني هذه المذكرات، وأثارت حفيظتي كثيرٌ من الأخبار والتصريحات، خصوصا أنّ من يمارس مهنة التدريس، يوقن يقينًا تامّا أن الضرب وإن لم يكن أساسًا في التأديب، فهو جزء لا يتجزّأ منه، ولهذا حين وضع المعلم العصا، حملها عنه المتعلّم، فبتنا نسمع باعتداءات متتالية على أسرة التعليم وأطرها التربوية والتعليمية، وبات المتمدرس يحيا حالة من التسيّب والفوضى عجزت معها الإدارات التربوية عن ضبطه وتقويمه كما ينبغي.
على أنّ هذا القرار ليس حكرا على بلدنا (المغرب)، بل هو قرار عالميٌّ مشترك اتخذته الكثير من الدول العربية والغربية تنفيذًا لقرارات المنظمة العالمية لحماية حقوق الطفل، والتي تعتبر الضرب نوعًا من أنواع العنف البدني المنتهِك لحقوق الطفل. ففي سلطنة عمان مثلا، صدر قرار بتعميم منع الضرب بكل المدارس قياسا على ما تُقرره النصوص القانونية المنظمة لحقوق الطفل، وقد عقّب المحامي صلاح المقبالي في تصريح له عن ذلك قائلا: (متى ما قام المعلم بممارسة أي فعل يخرج عن إطار العرف العام في الضرب و أحدث ضررا فعليا أو محتملا بالطفل فإنه يعد مخالفاً لأحكام قانون الجزاء وقانون الطفل، غير أنه متى ما كان الضرب في حدود التأديب فقط ولم يخرج عن العرف العام في ضرب التأديب المتعارف عليه في ربوع الوطن بين أبناء الشعب، فهذا لا يعد مما ينطبق عليه قانون الطفل، وإطلاق النص بمنع الضرب عموماً من المدرسين للطلاب فهذا نص مخالف للقانون والأعراف، فهذا القرار مفتقد إلى سنده الصحيح واقعاً وقانوناً).
بالجزائر ضرب التلاميذ من الناحية القانونية يعتبر اعتداء على قاصر خاصة إذا كان التلميذ المعتدى عليه لم يبلغ 16 سنة من العمر. فقد جاء في المادة 73 من القـرار رقم 778 المؤرخ في 26/10/1991: (يعد التأديبُ البدنيُّ أسلوبًا غير تربوي في تهذيب سلوكات التلاميذ، تعتبر الأضرار الناجمة عنه خطأً شخصيّا يُعرِّض الموظف الفاعل إلى تبعات المسؤولية الإدارية والجزائية التي لا يمكن للمؤسسة أن تحل محل الموظف في تحملها).
في مصر أصدرت وزارة التعليم عام 2008 م. قرارًا بمنع التعنيف الجسدي بجميع أنواعه، وأقرّت نظامًا بديلاً لمعاقبة التلاميذ المشاغبين يقضي بإلزامهم بأداء واجب منزلي يتضمن كتابة عبارة واحدة 300 مرة، يؤكد فيها الطالب التزامه بعدم تكرار السلوك المشاغب الذي ارتكبه!!!
وأصدرت المملكة العربية السعودية قانونا سنة 2000م يمنع العقاب البدني بالمدارس، وبلغ الأمر بالبحرين حدّ التهديد بفصل المعلم من وظيفته إن تورّط في عمليةِ تعنيفِ طلابِّه.
ولأن تعليمنا العربيّ الابن البارّ للتعليم الغربي في شِقّه الفاشل، فإنّ الأمر لن يختلف بمدارس الغرب طبعا، فمثلا في فرنسا (المثل والقدوة لتعليمنا المغربي) منع القانون الفرنسي منذ 1886م أي عقاب جسدي للطالب، وقد نصّ على أنّ العقاب الوحيد الذي يمكن أن يستخدمه المعلم هو: إعطاء درجات سيئة، أو الحرمان الجزئي من الفسحة، أو الوقوف في الفصل والاستبعاد مؤقتا من الحصص، أو اللوم والتوبيخ.
أما باليابان فالعقاب البدني محظور في المدارس اليابانية منذ 1947، وفي كوريــا الجنــوبيــة (حُظر على المعلمين في كوريا الجنوبية ضرب الطلاب في عام 2010 في أعقاب انتشار مقطع فيديو صادم ورد من أحد الهواتف الذكية عن طلاب يتعرضون للضرب الهمجي. وقد أقرّ اتحاد نقابات المعلمين الكوريين بالهدف الأخلاقي والمعنوي من وراء حظر العقاب البدني، لكنه نبّه إلى أن هذا الحظر سينجم عنه مشاكل في انضباط الطلاب في الفصول). ونفس الأمر بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية وغيرها.
لكن هل فعلا التزمت هذه الدول بهذه المذكرات، وهل فعلا سارت المدارس سيرها العادي بعد قرارات حظر تأديب المتعلمين بالضرب؟
من له احتكاك بالميدان يوقن أن الكثير من المذكرات الوزارية تبقى حبرًا على ورق، وأنّ واقع الحال يفرض -في كثير من الأحيان- سياسات ومناهج أخرى في التعامل مع التلاميذ، وقد ذكرتْ مجلة المعرفة في تقرير لها نقلا عن (بي بي سي) أنه في اليابان رغم صدور القرار بمنع الضرب مازال الكثير من المعلمين يعتقدون أنّ العقاب البدني ضروري، بل ويؤيد ذلك الأمر كثير من أولياء الأمور. وفي عام 2012، أظهر تحقيق أجرته وزارة التعليم اليابانية أن المعلمين قد أنزلوا العقاب البدني بأكثر من 10 آلاف طالب العام الماضي. وقد أُجري هذا التحقيق في أعقاب انتحار أحد طلاب المدارس الثانوية والبالغ من العمر 17 عامًا في مدينة أوساكا. وكان الطالب قائدًا لفريق كرة السلة المدرسي، وبعد وفاته تبين أن مدرب الفريق صفعه مرارًا على وجهه أمام زملائه في الفريق في أكثر من 30 مناسبة).
كما أن هذا المنع أدى في كثير من المؤسسات التعليمية إلى حالة من الفوضى والاضطراب والتسيّب، حتى قال أحد المعلمين في مدينة سيول لمراسلة هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي): (إنه يشعر بالعجز في مواجهة الفصل المتمرد)، ويضيف (أيدينا مغلولة، والشيء الوحيد الذي يمكن أن تفعله هو أن تجعلهم يقفون في مؤخرة الفصل وتطلب منهم التزام الهدوء)!!
بل إن بعض المؤسسات الأمريكية والبريطانية أضحى وجود الشرطة بها أمرًا ضروريًا إذ تغطي شرطة الانضباط المدرسي حوالي 43 في المائة من المدارس الأمريكية. وفي أستراليا (تتولى شرطة نيو ساوث ويلز أيضًا إدارة فصول الطلاب الغاضبة. ولدى ولاية كوينزلاند أيضًا برنامج تتمركز فيه الشرطة مع إدارة المدرسة).
وشاهدتُ مؤخرًا برنامجًا على قناة الجزيرة يعرض للوضعية المزرية لبعض المؤسسات التعليمية بولاية تكساس التي تعدّ أكثر ولاية أمريكية في تصفية الطلبة من خلال نهج سياسة (مباشرة من المدرسة إلى السجن)، حيث تعتمد نهجًا متشددًا في عقاب التلاميذ وإنزال أقسى التأديبات بهم عند أبسط المخالفات، وبدل أن تعالج إدارة المدرسة هذه المشاكل بطرق تربوية، فإن مكالمة هاتفية للشرطة كفيلة بوضع حدّ للمسألة، وقد حررت الشرطة المدرسية سنة 2013 حوالي مئة ألف محضر جنحة في حق الطلبة، فعند أدنى مخالفة أو تجاوز كعدم ارتداء الزي المدرسي أو التلفظ بعبارات نابية ضد الزملاء أو سكب حليب على أحد الزملاء أو رمي طائرات ورقية يتوصل الطلبة بمحاضر لفت نظر من الشرطة، وقد تُفرض عليهم غرامات، وعند العجز عن تسديدها يُزج بهم في السجون!! (هذه مدارسهم التي تمارس القمع في أجلّ صوره خصوصا حين يتعلق الأمر بالأقليات العِرقية!!).
فأيهما أخفّ ضررا على نفسية الطالب: وجود عصا تردعه أم وجود شرطي يروّعه؟ وهل المدرسة وكرٌ للإجرام أم منبع للعلم والنور والمعرفة!!
لأجل كلّ هذا مالت نفسي لتسطير هذه الرسالة المختصرة، للتعبير عن لا جدوى مثل هذه المذكرات، وعدم ملاءمتها لواقع الحال، وضرورة الحفاظ على حقّ المدرسة في تأديب طلابها بما تراه مناسبًا لواقعهم وأحوالهم.