إخوان المقيم العام “دولاتور” واستمرار التدخلات الغربية في المغرب من خلال المنظمات الحقوقية إبراهيم الطالب

يضطر الإنسان بالفعل أمام ما يعيشه اليوم إلى أن يتساءل عن جدوى أنهار الدماء التي سالت من عروق أجدادنا وآبائنا منذ 30 شتنبر 1912 تاريخ فرض اتفاقية الحماية الفرنسية، وعن أشلائهم التي نثروها في وجه المستعمر المستكبر الذي كان يروم مسخ هوية البلاد والعباد.

فهل هذا التساؤل مشروع؟
تبقى كل التساؤلات من هذا القبيل مشروعة بل واجبة أمام موجات التغريب المتتالية التي تستهدف المغرب على كافة الأصعدة، فإذا كان آباؤنا وأجدادنا إنما قاتلوا المستعمر من أجل دينهم وهويتهم وثقافتهم الإسلامية فقاوموا كل مظاهر التغريب خصوصا ما تعلق بالتعليم والثقافة والقضاء، واليوم نرى من حملوا نهجهم واتبعوا سبيلهم يُقصَوْن من كل مشاركة في الحياة العامة، بل يُشهَّر بهم في المجلات وعلى الشاشات والإذاعات وينعتون بالرجعية والظلامية وتشجيع الإرهاب، بينما تعطى الأسبقية لأشباه أولائك الذين وقفوا بالأمس إلى جانب المحتل الغاشم يسهلون مهامه في تخريب عقائد المواطنين ويُمدّونه بالمشورة حتى يحكم قبضته على مقاليد الأمور.
وهؤلاء هم إخوان الجنرال “دولاتور” المقيم العام في المغرب الذين تحدث عنهم بنفسه، وهو يجر أذيال الهزيمة مغادرا لبلادنا سنة 1955م حيث قال:

“لقد شاهدت وأنا على أهبة مغادرة بلاد المغرب منظرا كان من الصعب علي أن أتمالك معه دموعي..إنها كتلة من البشر تتراوح ما بين الألفين والثلاث من الخلائق مغاربة وفرنسيين..كانوا ينتظرونني في المطار من أجل وداعي، .. ازدحموا عليَّ يسلمون ويعصرون يدي في حرارة.. وفيهم من كان يعانقني معبرا لي عن أسفه لرؤيتي وأنا أنصرف في هذه الظروف..
لقد بلغ مني التأثر مبلغه حقا، وكان من العسير علي أن أصمد أمام دلائل العطف هذه التي عبر لي عنها إخواني المواطنون الفرنسيون ولكن كم كان تأثري عظيما أيضا من تلك العواطف التي لمستها في إخواني المغاربة، وذلك لأنني كنت أعرف ماذا ينتظر هؤلاء الذين يهشون في وجهي اليوم! ..إن هناك نكبات وويلات تنتظرهم في الأيام القابلة..” (حقائق عن الشمال الإفريقي لـ”دولاتور، نقلا عن كتاب الحماية الفرنسية لعبد الهادي التازي).

ونقول للجنرال لا تخف على إخوانك هؤلاء ولا عن أبنائهم، مادُمتم قد خرجتم بلباسكم العسكري ومؤسساتكم الحربية، ورجعتم في لباسكم المدني ومؤسساتكم الحقوقية ومنظماتكم غير الحكومية، فأنتم حماتهم بالبنادق بالأمس، واليوم بالعقوبات الاقتصادية والتقارير السنوية والمنح والقروض الموجهة، وغدا مرة ثانية بالقواعد العسكرية وحاملات الطائرات.
إخوان المقيم العام “دولاتور” والتدخلات الغربية في المغرب
إن التماهي واضح بين مطالب رجال فرنسا بالأمس وأبنائهم اليوم، فإخوان المقيم العام ساندوا قوانين”فرنسا” ومشروع الملك البديل “ابن عرفة” وأبناؤهم من العلمانيين اليوم ينادون بـ “ملك يسود ولا يحكم”، وبإسلام مُفرغ لا يحرك المسلمين ولا يظهر على سلوكياتهم، وبحذف عبارة “الإسلام دين الدولة” من الدستور إذ يعتبرونها عبارة غبية كما نشرت ذلك إحدى الصحف العلمانية ببلادنا.
أولائك ساندوا الظهير البربري سنة 1930 بمحاكمه العرفية وحربه على إسلام البربر الآمازيغ، وهؤلاء العلمانيون يطلبون من العرب المسلمين الخروج من المغرب ويرونهم مستعمرين، ويعتبرون الإسلام دخيلا عدوا لهم، لابد يوما أن يطرد كما طرد الرومان.
والعجب والله كل العجب من هؤلاء الذين لا يريدوننا أن نربط الماضي بالحاضر والأمس باليوم، حتى لا نكتشف أن الدعوة إلى تبني كل ما تفرضه المنظمات الدولية من قيم غربية من خلال مطالب العلمانيين المغاربة، إنما هو من قبيل إتمام ما بدأه المستعمر الأوربي في المغرب المسلم.
إذ يظهر جليا أن الرجل الأوربي مستعمر الأمس، ما زال يضغط اليوم بقوة حتى تنتفي كل مظاهر الحكم الإسلامي من القوانين الوضعية في المغرب، بل حتى ينتفي الإسلام من سلوكيات الأفراد، فكانت معركة المدونة إحدى المعارك التي خاضها إخوان “دولاتور” وأبنائهم ضد أعداء “دولاتور” وأنجالهم، وللأسف الشديد كان هو الفائز فيها تحت ضغط الإرهاب الذي أخرس كل الأفواه وغَصَّ كل الحناجر التي خرجت في المسيرات تنديدا بالتعديلات، واليوم يضغط “دولاتور” في شخص منظمات قومه ومعه إخوانه وأبناؤهم وبقوة على المغرب من أجل إتمام عملية المصادقة على المحكمة الجنائية الدولية في أسرع وقت ممكن، هذا في مجال القضاء.
وفي مجال التعليم بدل أن يمارس العلماء أو وزارة الأوقاف الرقابة على ما يدرس ويلقن للتلاميذ أحفاد المقاومين نجد من يقوم بهذه الوظيفة منظمات غير حكومية تضيق في تقاريرها على كل ما يمت للإسلام بصلة.
إخوان المقيم العام “دولاتور” وإلغاء حكم الإعدام بالمغرب
وفي هذه الأيام وتحت ستار الرحمة والرأفة وحقوق الإنسان واحترام الحياة تضغط علينا منظمات “دولاتور” من أجل إلغاء عقوبة الإعدام، ومرة أخرى بمساندة إخوان المقيم العام بل كل العلمانيين: بمؤسساتهم وأحزابهم ومعهم بعض الذين فتنوا بالثقافة الغربية.
فهل مسؤولونا وعلماؤنا يرون المسألة من زاوية المستقبل البعيد وما يمكن أن تحمله المتغيرات الدولية خصوصا وأن أحوال العالم لا تنبئ إلا بالمزيد من الدمار و الحروب، والتي لا يذهب ضحيتها سوى المسلمون في الشرق والغرب؟
أم ينظرون إلى الأمر من زاوية الأزمة التي يحدثها الضغط: الداخلي ( انهيار الاقتصاد، الأزمة السياسية، الفساد الإداري..) والخارجي(الحاجة إلى الاستثمارات الأجنبية، القروض من المؤسسات الدولية، ضغوط المنظمات الحقوقية..)؟
ونظرا لكون الزاوية الثانية هي التي مافتئت تهيمن على نظر مسؤولينا، أجدني مضطرا إلى أن أهمس في آذانهم مذكرا بكلمات المقيم العام نفسه الجنرال “دولاتور” وهو ينصح قومه ومسؤوليه عندما أيقن أن المغرب قد خرج عن السيطرة العسكرية لـ”فرنسا” سنة 1955م، حيث قال:
“نعم.. إذا كنا ننوي أن نسترسل في طريق النزول إلى الحضيض، حضيض التنازل عمَّا لنا من حقوق فإن البلاد سترجع القهقرى في أقرب ما يكون… وسيكون من الخطأ المبين متى ثقنا بمنطق المعاهدات وأحلاف التعاون مع هؤلاء الناس-يعني المغاربة-.. يجب ألا يكون إيماننا بمثل هذه المعاهدات اليوم أكثر من الإيمان الذي كان لنا بالمعاهدات وأحلاف “التعاون” المبرمة مع ألمانيا الهتليرية..! وإن الحوادث تؤكد ما نقول..” (المرجع نفسه).
إن الواجب على المسؤولين والعلماء أن ينظروا من نفس الزاوية التي نظر منها “دولاتور” إلى المعاهدات التي نجبر على توقيعها، حتى يمكنهم فهم مآل كل تنازل أو إجراء يمس بهوية المغاربة، فلربما كان الثمن في المستقبل أضعاف أضعاف ما قد نتوهم جنيه من مصالح إذا نحن أذعنا وتساهلنا.
فإذا نظرنا مثلا إلى مسألة إلغاء عقوبة الإعدام من زاوية “دولاتور” فإن الأمر -مادامت هذه العقوبة لا تطبق إلا ناذرا- لا يعدو القصد من ورائه إلا دق آخر مسمار في نعش الشريعة الإسلامية التي حكمت المغرب طيلة قرون طويلة والتي عانى المستعمر بسببها الويلات لما كانت هي المحرك للناس والمؤطر لسلوكهم.
فإذا ألغيت عقوبة الإعدام من القانون كما ألغيت عقوبتَي قطع يد السارق وجلد ظهر الزاني وغيرهما، كمُل استبشاع الناس للحدود الشرعية، وأصبحت كما يقول العلمانيون عنها عقوبات وحشية في نظر من قلَّ علمهم وضعف إيمانهم، وبذلك تسد الباب أمام كل مُطالب بسن قوانين تتطابق مع الشريعة الإسلامية، وإن لم تغلق تضاعفت صعوبة المطالبة بها.
وحتى لا يتهمنا البعض أننا نُهوِّل الأمور أدعو القارئ الكريم إلى التفكر في هذا السؤال:
لماذا صرح الاتحاد الأوربي -مؤخرا- متهما تركيا بأنها تحاول الرجوع إلى الخلافة العثمانية لمجرد أنها حاولت سن قانون يعاقب على الخيانة الزوجية بالحبس ثلاث سنوات؟
وبينما القارئ الكريم يتفكر، أذكِّر مرة ثانية مسؤولينا وعلماءنا بنصيحة أخرى لـ”دولاتور” وجَّهَهَا وهو ممتلئ أسى، منذرا قومه كارثة تحل بدارهم قبيل رجوع الملك الراحل محمد الخامس رحمه الله تعالى، حيث قال:
“يجب علينا في هذه الظروف الحرجة أن نصمد أمام العواصف وإنه لا ينبغي أن نأخذ -دون ترو- بما من شأنه أن يوقعنا في الخطأ مرة أخرى..
إن الأمر يتعلق اليوم بتجنب الكارثة، ويجب لأجل ذلك أن نحصل من محمد الخامس على الأمور الثلاثة التالية:
أولا: أن لا تلمس معاهدة الحماية بزيادة أو نقض.
ثانيا: أن نحصل على ضمانة تؤكد أنه لا يؤاخذ أي شخص من أصدقائنا بنوع ما من المؤاخذة.
ثالثا: يجب على ابن يوسف أن يوجه نداء يندد بالإرهاب ويدعو الناس فيه إلى الهدوء والنظام”. (المرجع نفسه)
فما هي الزيادة أو النقص يا ترى الذي كان يخشى منه الجنرال على بلاده؟
وما هي صفات وقناعات أصدقائه الذين يخاف عليهم من المؤاخذة؟
وما طبيعة الإرهاب الذي طلب من العاهل أن يندد به وما مفهومه عند “دولاتور”.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *