الهجرة قبل الفتح والهجرة بعده عبد القادر دغوتي

مكث النبي صلى الله عليه وسلم في مكة ثلاثة عشر عاما يدعوا الناس إلى الله ويبين لهم أصول عقيدة التوحيد ويعمل جاهدا على إجلاء الغشاوة عن القلوب حتى تُبصر نور الإسلام…
إلا أن صناديد مكة قابلوا هذه الدعوة بالإعراض والصد والعناد، وبالاعتداء على صاحبها وعلى أتباعه الأول السابقين وإيذائهم بشتى ألوان الإيذاء المادي والمعنوي …
فكان لابد من البحث عن بيئة أخرى تقبل دعوة الإسلام وتؤويها وتنصرها ..وقد شاء العليم الحكيم سبحانه أن تكون المدينة هي ذلك البلد الطيب وتلك البيئة الصالحة التي ستحتضن دعوة الإسلام، وتكون منطلق التبشير به وإيصال أنواره إلى أرجاء الأرض.
فرضية الهجرة إلى المدينة
مهد النبي صلى اله عليه وسلم للهجرة، ثم أوجب على كل قادر من أصحابه ترك مكة والتوجه نحو المدينة حيث ينتظر قدومهم إخوانُهم من الأنصار الذين فتحوا لهم قلوبهم قبل ديارهم، ورحبوا بهم وواسوهم بما يحبون وآثروهم على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة.
ثم هاجر النبي صلى الله عليه وسلم برفقة الصديق أبي بكر رضي الله عنه، بعد أن أحكما الترتيب والتخطيط.
ومنذ ذلك الحين كان واجبا على كل مسلم مستطيع أن يلتحق بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من المهاجرين والأنصار بالمدينة المنورة ليضع يده في أيدي إخوانه ويُسهم في توطيد دعائم وأركان الدولة الإسلامية الناشئة وتوسيع آفاق الدعوة إلى الله تعالى.

فضل المهاجرين
لم تكن هجرة المسلمين إلى المدينة رحلة سياحية إستجمامية، بل كانت تضحية ومشقة ومخاطرة؛ تضحية بالنفس والأهل والمال والوطن في سبيل نصرة دين الله تعالى، وقد أثنى عليهم الباري جل وعلا في قرآنه الكريم وحفظ لهم هذا الصنيع العظيم ووعدهم بأعظم الأجر وأحسن الثواب جزاء وفاقا، قال الحق سبحانه: {إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله، أولئك يرجون رحمة الله والله غفور رحيم} (لبقرة218). وقال جل وعلا: {فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقُتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثوابا من عند الله والله عنده حسن
الثواب} (آل عمران195)، وقال جل شأنه: {والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين ءاووا ونصروا أولئك هم المومنون حقا لهم مغفرة ورزق كريم} (الأنفال74)، وقال: {الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون، يُبشرهم ربهم
برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم خالدين فيها أبدا إن الله عنده أجر عظيم} (براءة:19ـ22).
فهنيئا للمهاجرين بهذا الفضل العظيم!!
لا هجرة بعد الفتح
منَّ الله تعالى على رسوله وعلى المؤمنين بالنصر المبين والفتح العظيم؛ فتح مكة المكرمة، وبذلك انتشر الإسلام وشرع الناس يتبرؤون ويتطهرون من الكفر والشرك ويدخلون في دين الله أفواجا، وكان هذا الحدث العظيم في السنة الثامنة من الهجرة النبوية المباركة، بعد أعوام من التضحيات الجسام
والجهاد المتواصل في سبيل الله بالنفس والنفيس. قال جل وعلا: {إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا} (النصر).
وبعد الفتح المبارك وتمكين الله للإسلام والمسلمين، لم يعد داعي وجوب الهجرة إلى المدينة قائما، فلا هجرة بعد الفتح. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح؛ فتح مكة: “لا هجرة، ولكن جهاد ونية وإذا استُنفرتُم
فانفروا” (صحيح البخاري2783، وصحيح مسلم1353).
وبهذا الإعلان يفوت فضل الهجرة وعظيم ثوابها من لم يكن من زمرة المهاجرين
الذين أثنى الله عليهم في كتابه، وقد حزن المسلمون -وحق لهم أن يحزنواـ على فوات هذا الخير العميم!!
هجرة ومهاجرون إلى قيام الساعة
كانت الهجرة إلى المدينة المنورة مرتبطة بمرحلة من مراحل الدعوة الإسلامية، اقتضتها ظروف وملابسات ومتطلبات هذه المرحلة، ومن ثم كانت هجرة محدودة في الزمان والمكان، وقد انتهت بفتح مكة.
إلا أن النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم أعلن عن هجرة أخرى ممتدة في الزمان والمكان، وعن فوج آخر من المهاجرين يتتابعون ـوجوباـ في طريق الهجرة إلى قيام الساعة، قال عليه الصلاة والسلام مبينا طبيعة هذه الهجرة: “المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه” (صحيح البخاري10 وصحيح مسلم 40).
ــ إنها هجرة المناهي الشرعية؛ أي هجر وترك كل ما نهى الله عنه ورسوله من مناه في النيات والأقوال والأفعال والأحوال. وقد جمع الله تعالى تلك المناهي كلها في لفظ واحد هو: الرجز، قال الحق سبحانه: {والرجز فاهجر}. المدثر5.
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله: “يُحتمل أن المراد بالرجز الأصنام والأوثان التي عُبدت مع الله، فأمر بتركها والبراءة منها ،ومما نُسب إليها من قول أو عمل. ويُحتمل أن المراد بالرجز أعمال الشر كلها وأقواله، فيكون أمرا بترك الذنوب، صغيرها وكبيرها، ظاهرها وباطنها، فيدخل في ذلك الشرك وما دونه” (تيسير الكريم الرحمن 3/392).
ــ فهي هجرة جامعة شاملة تشمل هجر كل صور الشرك كبيره وصغيره إلى باحة التوحيد الخالص لله تعالى، وتشمل هجر المعصية إلى الطاعة.
ــ وتشمل هجر كل أنواع البدع التي تُشوه صورة الدين النقية، وتكدر طبيعته السمحة الميسرة، وتُثقل كاهله بآصار وأغلال وشطحات ليست منه…
ــ وتشمل هجر المعتقدات الضالة المنحرفة والأفكار الهدامة التي تهدم الأوطان وتسلب أمنها وتشتت شمل المسلمين وتجعلهم شيعا يذيق بعضهم بأس بعض…
ــ وتشمل هجر أطروحات العلمانيين واللبراليين والإباحيين التي تنازع شريعة الإسلام وتحارب منظومته الأخلاقية، وتسعى إلى حمل المسلمين على التطبيع مع الفواحش والمنكرات والإفساح لها في نفوسهم وبلادهم.
ــ إنها الهجرة من الشر بكل صوره ومظاهره إلى الخير. والخير كله في الكتاب والسنة بفهم سلف هذه الأمة . قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: “تركتُ فيكم اثنتين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنتي” (جامع بيان العلم وفضله،ص420،دار ابن حزم1427ه ــ 2006م).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *