مقالات في الحرية المقالة الأولى: وقفة فكرية مع مصطلح الحرية عند العلمانيين كتبه ذ طارق الحمودي

الحمد لله أما بعد فهذه مقالات في موضوع فلسفي عجت به المنتديات والمقالات والكتب استشكالا وتحليلا وبيانا.. وتولى كبر هذا ثلة من كبار مفكري عصر ما يسميه الغربيون والمستغربون (عصر التنوير) ولا زالت بضاعتهم فيها إلى الآن رائجة في سوق الحداثيين العرب والليبراليين العلمانيين.. يدعون إليها.. ويحاورون فيها.. وأحيانا يفرضونها على غيرهم..!
إن كلمة (الحرية) في نفسها مصطلح مشكل.. على الأقل من الناحية الاصطلاحية.. بله الفكرية!

الحرية والليبرالية
هما كلمتان غامضتان؛ وأكثر غموضا منهما الدعاة إليهما؛ وقد عودنا هؤلاء الغموض في كل شيء!
يقول الأستاذ العلماني محمد سبيلا في كلمة له مسجلة لمنبر الحرية: الليبرالية هي فكر الحرية.. ثقافة الحداثة هي الليبرالية).. هكذا يتفننون في إعراب الألفاظ ولا يعربون عن المعاني الحقيقية.
يقول الدكتور علي بن إبراهيم النملة عن الليبرالية [في إشكالية المصطلح العربي (ص:97-98)]:
(هي تسمية أقرب إلى الغموض، وغموضها يأتي من غموض الحرية نفسها ومن ثم اضطراب المصطلح ويؤكد على غموضها عدد من المفكرين الغربيين من أمثال برتراند رسل ودونالد سترومبورج وكذا في الموسوعات المعتبرة مثل موسوعة الشاملة والموسوعة البريطانية ولذا فالليبرالية أكثر المفهومات إثارة للإشكالية إذ أنها هي مفهوم مراوغ) اهـ.
وفي تاريخ (الفكر الأوربي الحديث ص 337): عن دونالد سترومبرج أنه قال: (إنَّ كلمة الليبرالية مصطلح عريض وغامض، ولا يزال إلى يومنا هذا على حالة من الغموض والإبهام).
ومع ذلك سأحاول تتبع مقاصدهم من (الحرية) وبسط تصورهم لها وعرض تمثلاتهم لها في الحياة الاجتماعية والسياسية.. وطبيعة علاقتها بالدين والشريعة؛ ثم أعرض موقف الدعوة السلفية من مصطلح الحرية ومضمونه الفكري والديني وحدوده فيها.

معنى الحرية عند العلمانيين والحداثيين
تعددت تعريفات العلمانيين الليبراليين والحداثيين اللائكيين لمعنى الحرية.. واختلفت مشاربهم فيها وتنوعت تطبيقاتهم لها لتضارب تصوراتهم لمقتضياتها.
فيذهب بعضهم إلى أن الحرية الفكرية هي أن لا يكون لك موقف ثابت من أي شيء مهما كان.. وإن كان حقا مستقرا ثابتا.
يقول رسل: (إن الفيلسوف الليبرالي لا يقول: هذا حق…! ..بل يقول في مثل هذه الظروف: يبدو لي أن هذا الرأي أصح من غيره كما في كتاب (الفلسفة السياسية من أفلاطون إلى ماركس ص93 ) لأميرة حلمي مطر نقلا عن حقيقة الليبرالية وموقف الإسلام منها. وهذا أمر محمود إلا في الأمور القطعية والثوابت وليس عند هؤلاء ثوابت!
وعلى هذا أقام دعاة الحرية الليبرالية مذهبهم فرفضوا الحدود المرسومة للحقائق. وفوضوا للعقل أن يتيه كما شاء في عالم من الإشكاليات والأفكار الحرة غير المنضبطة.. فحرروا العقل في تفسير النصوص الدينية والشرعية بدأ بمفكري عصر (التزوير) مع التوراة والإنجيل وانتهاء بالعلمانيين العرب.. ومن ذلك أن قال جون جاك روسو في (رسائل الجبل):
(لقد تقبلوا.. وكان ينبغي أن يتقبلوا كل التفاسير إلا واحدة.. تلك التي تمنع حرية التفسير.. وهذا التفسير الذي رفضوه كان تفسير الكاثوليكيين).
هكذا كان موقف أولئك من كتبهم المحرفة.. وكان موقفهم المتحرر من ضوابط التفسير في مقابل رهبان كانوا يفسرون هم أيضا بدون ضوابط للتفسير.. فاتفقوا جميعا على أن ضابط التفسير الوحيد هو أن لا ضابط في كل ذلك.. إنما هو الهوى..!
أما في شرعنا فثم ضوابط وقواعد لا بد من التزامها لتفسير نصوص الوحي.. ولكن علمانيينا وغيرهم لبسوا عباءة أسيادهم أتباع الهوى فدعوا إلى تحرير العقل من تلك القواعد ووضع غيرها مما يتناسب مع طموحات الهوى .
اخترعوا لنا مرجعيات أخرى للتفسير كالمرجعية الاجتماعية والسياسية كما يفسره الفقهاء بأدوات فقهية ولغوية، فللسياسيين والاجتماعيين والمفكرين أن يفسروه بوسائل سياسية واجتماعية وفكرية، أعجب كثيرا من دعاة الحرية العلمانية حين يستعملون كلمة (أخلاق) فإنه ليس لهم في الحقيقة أخلاق ثابتة.. فهم يصنعون أخلاقا لكل زمان وكل مكان.. في كل مرة تملي عليهم شهواتهم شيئا ما..!
إن المتتبع لما يكتبه هؤلاء العلمانيون وهم يتغنون بالحرية ويتغزلون فيها بما يفهم وما لا يفهم من التعابير الفكرية أو السياسية يلحظ فيهم ميلا إلى الحرية في تفسير الحرية.. فلا تكاد تجد واحدا منهم يستقر على تصور واحد لها.. وكأن المصطلح عجينة يشكلونها كما شاؤوا حسب متطلبات الأهواء..
والخطير في هذا لمن لم ينتبه أو لا يريد أن ينتبه أن هذه النظرة الفلسفية للحرية نظرة وجودية سارترية إلحادية.
فمذهب كثير من دعاة الحرية اليوم الذين يريدون تعريف الحرية وفق أهوائهم أو وفق المعايير الكونية زعموا إنما يصدرون بقصد منهم أو بغير قصد بوعي أو بغير وعي عن مذهب الوجودية السارترية.
وقد كنا نرجو أن لا يكون في الحرية التي نريد أن نجتمع عليها توابل اشتراكية أو وجودية، لكن المؤسف أن يكون العكس هو مشكلتنا اليوم ومشكلة المفكرين التنويريين أو الباحثين الاجتماعيين العلمانيين أو النشطاء الحقوقيين الليبراليين، فإن مدرسة الوجودية لا زالت تجد تلامذة جددا ينشرون مقرراتها حفظا دون فهم لعمق مقاصدها في كثير من الأحيان وفهما في قليل جدا من الأحيان.
ففي سنة 1937 نشر لويس لافيل الفيلسوف والأستاذ الصحفي كتابه (De l’Acte) وهو مفكر وجودي على الطريقة السارترية، وقرر فيه أن الإنسان هو من يختار ماهية القيم التي يحيى بها وله كامل الحرية في ذلك، وهذا انسلاخ عن مفهوم العبودية للخالق، فإن الوجوديين يعتقدون أن الوجود سابق للماهية (essence) وأن سبقه هو الذي يعطي الصلاحية لاختيار الماهية التي تناسبه!
فالليبرالية الوجودية تصل إلى درجة أن تقصد إلى قيمة وتضع هي لها ماهيتها التي توافقها وتشكل بنفسها على مقاسها ملامحها فلا يبعد من الوجودي أن يعترف لك بوجود الله تعالى لكنه يضمر له في نفسه تصورا يوافق هواه ونزواته ولا يزيد عنده على كونه قيمة كونية أو إنسانية!!! فهم يعتقدون أن الوجود سابق للقيم.. وبالتالي فله الحق في أن يعرف القيم كما يشاء.
وهذا منطق كثير من ملاحدة العرب اليوم خصوصا ذوي النشأة المسيحية.
فبعد اعتقادنا اندثار الفلسفة الوجودية فإذا بها لا تزال حية في بعض أفكارها التي ينشرها بعض رواد هذه الفلسفة الإلحادية. ومن أدلة ذلك قول لافيل في ذلك الكتاب (ص95) :
“L’existence n’a de sens en nous que pour nous permettre non pas de réaliser une essence posée d’abord، mais de la déterminer par notre choix et de coïncider avec elle”.
أي: (ليس للوجود معنى فينا إلا إذا كان يمكننا من تعريف قيمنا باختيارنا لا بتمثلها ابتداء!!!)
ولذلك وجب الحذر من إطلاق كلمات مثل: (القيم الكونية) و(الأخلاق الكونية) وأمثالها مما يستعمله أمثال أحمد عصيد، فإنه يظهر لي أنه على هذا المسلك الذي أسميه (النفاق الاصطلاحي).
ولعله يظهر لك أخي القارئ وأختي القارئة حقيقة قيمة الحرية عند الغرب في المقال المقبل بإذن الله تعالى من هذه السلسلة، وعنوانه: (ملامح الحرية في الثقافة الغربية) والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *