بعد مرور خمس وأربعين سنة على قنبلة الدار البيضاء وتخريبها 5-7 غشت 1907، وبعد الجهاد الشعبي للاحتلاتل الفرنسي، الذي أدهشت تعبئته وجسارته الجنرال درود الذي بعث يوم 10 غشت برقية يطلب فيها مزيدا من الإمدادات العسكرية بإلحاح، ووصف قتال المغاربة بقوله: “إنهم يتحركون مثلنا بالضبط، إن رميهم اكثر دقة وتصويبا، لولا أن رجالنا مختبئون جيدا في الخنادق لكنا فقدنا ضحايا عديدة”.
وقد ترددت هذه الحقيقة على لسان الشاعر الشعبي عبد الهادي بناني الذي كتب قائلا:
طاح ميمون الكفر كبار وصغار صادف لمحان والفتان والخسارا
كم من كافر للرباط دخل عريان هذي هانا وليس تسببها هانا
فروا واتفرقوا على جمع البلدان رهوط كثار جات منهم عريانا
ويدور الزمان دورته وتبقى وحشية المحتل الظالم المغتصب للأرض والهاتك للعرض والقاتل للولد، هي هي، فبعد ذيوع نبأ اغتيال فرحات حشاد قرر القادة النقابيون المغاربة، على هامش اجتماعهم مساء يوم 6 دجنبر1952، خوض إضراب تضامني لمدة أربعة وعشرين ساعة يوم 8 دجنبر1952 وفي اجتماع الأطر بمقر القيادة النقابية الوطنية صباح يوم 7 دجنبر 1952 بزنقة (لاسال) غير بعيد عن مقر البلدية تمت تزكية ذلك القرار المتخذ من طرف القيادة وقد انضم القادة السياسيون الوطنيون إلى الصف الداعم للإضراب والمساند للأطر النقابية في هذا الاستحقاق النضالي.
وفي هذا الاجتماع الداعي إلى التعبئة من أجل تنفيذ ذلك القرار النضالي الوطني وإلى إنجاحه، تم الحرص من جانب الأطر النقابية الوطنية على عدم الاكتراث بالاستفزاز الذي تقوم به السلطات الاستعمارية والسقوط في إغراءات العنف التي قد تترتب عن ذلك.
وفي مساء يوم 7 دجنبر 1952، بدأت السلطات الاستعمارية لمدينة الدار البيضاء في تنفيذ المخطط الذي دبرته لاستفزاز المغاربة والدخول في مواجهة عنيفة لتكسير الإضراب وإيجاد ذريعة للتنكيل بالمواطنين، وأصبح كريان سنطرال اعتبارا لقوته البشرية وما تتمتع به ساكنته المنخرطة بحماس في العمل النقابي والحزبي من طاقة نضالية كفيلة بنجاح الإضراب وشل الحركة بالمدينة هدفا لذلك المخطط المبيت.
ففي مساء ذلك اليوم، قام مجموعة من الموظفين ورجال الشرطة وأعوان السلطة بجولة على التجار الصغار مهددين إيهام بمختلف العقوبات الممكنة إذا ما نفذوا يوم 8 دجنبر 1952 قرار الإضراب الذي اتخذته القيادة النقابية، وبدأوا يداهمون مختلف الأحياء في محاولة لترصد المناضلين الذين يوزعون المناشير الداعية إلى المشاركة في الإضراب لاعتقالهم، وقد أدت هذه المداهمات إلى شروع القوات الاستعمارية، وبشكل مفاجئ، في إطلاق النيران على المواطنين المغاربة الذين تجمعوا يعاينون مطاردة بعض رجال الشرطة لمناضلين في مدخل كريان سنطرال.
أدى هذا التطور إلى احتشاد سكان الحي الصفيحي في إطار مسيرة احتجاج للتصدي لهذه المداهمة المسلحة، ونشوب حريق في المعرض الذي كان موجودا بالحي المحمدي فجاءت تعزيزات أمنية وعسكرية إلى الحي وأطلقت العنان لسلاحها الذي فتك بالمئات من المواطنين المغاربة الأبرياء.
وقد تم تشكيل فريق تعبوي يدعو المواطنين إلى الالتحاق ببيوتهم درء لكل استغلال لذلك التجمع من طرف السلطات الاستعمارية ويشجع على المزيد من إطلاق النار العشوائي على المغاربة، وانتظار اليوم الموالي الذي ينظم خلاله الإضراب للتجمع، ولكن إفراط السلطات الاستعمارية في إطلاق النار دفع المواطنين إلى الاحتشاد للاحتجاج على التنكيل بالأبرياء والتضييق عليهم في كل مكان وفي كل وقت وحين.
وتتضارب الأرقام حول عدد المغاربة الذين سقطوا ضحايا في هذه المجزرة الرهيبة، فهناك من يحصر عدد الموتى في ما دون المائة، مثل مراسل جريدة الشعب البلجيكية، الذي كتب بأن عدد القتلى المغاربة الذين حصدهم رصاص البوليس الاستعماري فاق الستين فردا، وعدد المصابين بجروح بليغة قدر بالمئات، لكنه يسجل بأنه عاين خمسين جثة أمام مقر الشرطة بكريان سنطرال وحده.
وهناك شهود تختلف تقديراتهم لعدد الضحايا المغاربة، فقد كتبت جريدة لومانيتي ديمانش ليوم 14 دجنبر 1952 استنادا إلى شاهد عيان بأن عدد الموتى في هذه المجزرة بلغ مع منتصف ليلة 7و8 دجنبر 1952 في الجانب المغربي 133، وبلغ في صفوف قوات الأمن الاستعمارية التي جيء بها إلى كريان سنطرال قتيلين اثنين. لكن هناك من الجانب الفرنسي من يذهب بعيدا ويقدر هذا الرقم في حدود أكثر من ألف قتيل مغربي كما هو الحال عند الكاتب الفرنسي روبير بارا.
ويعتبر هذا الرقم الأخير الأقرب إلى الصواب وقد قدم النقابي الطيب بن بوعزة خلال اللقاء التخليدي الذي نظمته المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرر من المجلس الوطني المؤقت يوم 9 دجنبر 202 بمدينة الدار البيضاء بمناسبة مرور خمسين سنة على هذه الأحداث رقما يفوق الألف وثلاثمائة قتيل مغربي وهو العدد الحقيقي للقتلى الذين سقطوا في هذه الأحداث الدامية.
لقد تم إدخال نعوش المواطنين ضحايا هذه المجزرة إلى مسجد الحي المسمى حينئذ بجامع عبد الرحمن، وبات هذا المسجد ليلتها مطوقا بقوات الأمن وتم دفن الموتى بعجالة، وقد لجأ بعض الأهالي إلى دفن ضحايا هذه المواجهات ليلا، كما اضطر آخرون إلى حمل نعش القتيل إلى مسقط رأسه خارج مدينة الدار البيضاء لدفنه.
إن هذه المجزرة كانت الشرارة الأولى لبدأ العمل السري المسلح من أجل خدمة القضية المغربية العادلة، وشهورا قلائل بعد هذا الحادث يتم نفي السلطان الشرعي الشيء الذي كان بمثابة إضافة البنزين إلى النار، حيث اتقدت نار المقاومة المسلحة إلى أن انتصر الوطنيون وحازوا استقلال البلاد.
انظر موسوعة الحركة الوطنية والمقاومة وجيش التحرير بالمغرب
الجزء الأول المجلد الأول الصفحة 102-107
والصفحة 282 وما بعدها