المغاربة وشعار الإسلام عبد الرحمان سعيدي

الأذان شعيرة من شعائر الإسلام، قد فرضها الله تعالى وأمر بها لإعلاء كلمته وإظهار دينه في الأرض، فهو شعيرة ظاهرة متميزة عن بقية الشعائر، لأنها بمثابة اللواء الذي يرفع عاليا حتى يكون رمزا للتمكين والثبات والاستقرار، وجميع الشعائر من أركان الإسلام الخمسة ومختلف الفرائض، بمثابة البيوت المكونة لحصن الإسلام.
ومعلوم أن تلك الشعائر كلها تشكل جسدا واحدا متماسكا مبنيا على أسس راسخة وثابتة لهذا الحصن، ولا يكون الأذان إلا ذلك اللواء الذي يعلو معالم هذا الجسد كلها والذي يرفرف في عنان السماء ليدل عليها القاصي والداني.
وذلك أن هذا النداء المرفوع والظاهر يخبر كل من يلج رحاب بلاد الإسلام بحال أهلها وأنهم على دين التوحيد، وأنهم متعاقدون مع رب العالمين وملتزمون بنهجه، فينبئه بضرورة تقديرهم واحترام عوائدهم، ويحذره من مغبة الإخلال بنظامهم وتجاوز حدود قيمهم وآدابهم.
فينتظم بذلك حال المسلمين ولا يشوبه شيء يشين دينهم، من كل ما يخالف شرع الله تعالى ظاهرا وباطنا، فهو علامة على إقامة الدين في حصن الإسلام، وهو برهان على خضوع الجماعة المسلمة من أهله لله عز وجل، ودليل على إخلاص طاعتها له وانقيادها لأوامره ونواهيه.
وإذا كانت جميع أركان الإسلام وفرائضه بمثابة الجسد الواحد فإن الأذان بمثابة الرأس الذي لا يقوم ذلك الجسد إلا به، ومن المسلم به أن الجسد لا يقوم من غير رأس كما أن الرأس من غير جسد لا حياة فيه ولا معنى له.
وهذا المعنى مستوحى من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة…» الحديث رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.
فالمراد بالإسلام في الحديث الشهادتان، وقد نبه بالصلاة على بقية الفرائض واقتصر عليها لأنها الأهم التي لا تسقط بحال.
والحديث يبين أن مفتاح الدخول في الإسلام هو النطق بالشهادتين، ثم تأتي التكاليف الشرعية المتمثلة في إقامة الأركان والفرائض بعدهما، حيث يلزم بها المكلف حتى يعتبر في عداد المسلمين وتجري عليه أحكام الإسلام، فلا يقبل عمل من غير الإعلان بمبايعة الله ورسوله عن طريق الشهادتين، كما لا تنفع الشهادتان وحدهما إن اختل العمل بتلك الفرائض والأركان، فمن فرط في شيء من ذلك اختل إسلامه بقدر ما فرط فيه، وحينئذ لا تنفعه الشهادتان وحدهما بسبب تفريطه وعدم العمل بمقتضاهما.
وإذا كان هذا شأن أفراد المسلمين فإن هذا المعنى ينطبق أيضا على المجتمع المسلم كله، حيث أن رفع الأذان في البلد المسلم بمثابة الشهادتين بالنسبة للأفراد، وامتثال التعاليم الربانية في الحياة العامة والتزام المجتمع بها هو بمثابة الجسد السليم المتماسك المنسجم مع الرأس، والتحام أحدهما بالآخر يوحي بالالتزام التام بقواعد الإسلام والخضوع لثوابته.
والأذان مع ذلك متضمن لمعنى الشهادتين ومؤكد لمعناهما في حق المجتمع كله. وإشعارا بذلك الالتزام وإحياء للعهد بين المسلمين وبين ربهم يرفع المسلمون هذا النداء بصوت جهوري من على الصوامع، في كل مرحلة من مراحل الليل والنهار وذلك خمس مرات في اليوم والليلة، تجديدا لذلك العهد وتلك المبايعة، وتأكيدا لمعنى الطاعة لرب العالمين، وإظهارا للاستقامة على نهجه وعبادته وإعلانا لاتباع أحكامه وتعاليمه.

الأذان شعيرة من شعائر الإسلام الظاهرة لا يجوز تعطيله ولا تخفيضه
والأذان بهذا المعنى شعيرة من شعائر الإسلام الظاهرة، لأن بها تتميز بلاد المسلمين عن غيرها، وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برفعه حتى في السفر، والأمر يقتضي الوجوب، فلا يجوز تعطيله ولا تخفيضه.
قال أبو عمر بن عبد البر المالكي الأندلسي: «ولا أعلم اختلافا في وُجُوب الأذان جملة على أهل المصر؛ لأن الأذان هو العلامة الدالة المفرقة بين دار الإسلام ودار الكفر..».
وقال عطاء ومجاهد والأوزاعي وداود: «الأذان فرض، ولم يقولوا على الكفاية».
وقال ابن المنذر: «ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمالك بن الحويرث ولابن عمه: (إذا سافرتما فأذنا وأقيما وليؤمكما أكبركما)».
قال- ابن المنذر-: «فالأذان والإقامة واجبان على كل جماعة في الحضر والسفر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالأذان، وأمره على الوجوب» (1).

الترغيب في الأذان وبيان فضل المؤذن دليل آخر على عظم حرمته
فعن أبي سعيد الخدري سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: »لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة» الموطأ.
وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أذن محتسبا سبع سنين كتبت له براءة من النار» سنن ابن ماجه.
ويكفي دليلا على مشروعية الأذان وبيان حرمته وعدم جواز المساس به أو التهاون في حقه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كان يوم فتح مكة وحانت الصلاة، أمر بلال بن أبي رباح رضي الله عنه أن يصعد فيؤذن من على الكعبة، فصعد بلالٌ وأذّن.
حيث أن أمره عليه الصلاة والسلام لبلال بالصعود على ظهر الكعبة، دليل كاف لو لم يكن في الباب غيره، على عظم حرمة الأذان وفضله ومكانته عند الله عز وجل، حيث أمر بالصعود على ظهر الكعبة مع عظم حرمتها ورفع الأذان فوقها.
وفي هذا دليل على أن الأذان من الدين، بل هو أسمى الشعائر التي لا يقوم الدين إلا بها، فبه يعرف المسلمون من غيرهم وبه يجددون العهد مع الله، في كل مرحلة من مراحل الليل والنهار، وبه يعلنون لغيرهم استقامتهم على الحق ويدعونهم عن طريقه إلى دين الله تعالى.
لذلك قال القرطبي: “وحسبك أنه شعار الإسلام، وعلم على الإيمان” (1).
وكان رفع بلال رضي الله عنه الأذان على الكعبة إيذانا للعالمين برفع راية الإسلام، التي تدعو إلى الحق والسلام.
وبانتشار الاسلام في الأمصار شيدت المساجد ورفعت الصوامع، فوصل صوت الأذان منذ القرن الأول الهجري إلى أقصى بلاد الهند في الشرق وإلى أقصى بلاد الغرب حينئذ، وهي بلاد المغرب الأقصى والأندلس.
فقد حظي المغاربة بهذا الشرف العظيم، الذي هو إعلاء كلمة الله تعالى بهذه الشعيرة العظيمة، فتميزوا بأصواتهم كما تميزوا بتفننهم في بناء الصوامع والمساجد، فأوجدوا في ذلك فنا معماريا متميزا لا يعرف له مثيل، قد اختصوا به وعرف به هذا البلد العريق دون غيره.
فمنذ القرن الأول الهجري ازدانت الحواضر والبوادي بالصوامع كما ازدانت الأجواء بألحان المؤذنين، خمس مرات في اليوم والليلة، فترى الأنوار تتخلل فلق الصبح في المساجد تصطحبها أصوات عذبة، توقظ النائم وتؤنس المريض المنهك، وتنبه الغافل، وتذكر الناسي، وتعظ العاصي، وذلك طيلة أربعة عشر قرنا مضت، فأطربت هذه الألحان آذان المغاربة الأشراف، وألفوها حتى غذت من عاداتهم، بل أصبحت هذه الشعيرة محور حياتهم يضبطون بها أوقاتهم وينظمون بها مواعيدهم، فبالأذان يستيقظون، وبه يستقبلون يومهم، وبه ينهون أشغالهم.
ومنذ فتح عقبة بن نافع الفهري رحمه الله لهذا البلد المبارك والمغاربة يحافظون على هذه الشعيرة ويرفعونها في جميع الأرجاء من غير كلل ولا ملل، إيقانا منهم أنها من دينهم، فلم يجرؤوا على طمسها أو تغيير شيء منها، فحافظوا عليها بكل صدق وأمانة، وقد تجسد هذا الحرص في صنيع الحسن الثاني رحمه الله تعالى الذي شيد المعلمة الكبرى التي ساهم فيها جميع المغاربة الأحرار، تلك التي جعلها على شاطئ بحر الظلمات ورفع صومعتها عاليا ليشق صوت الأذان أجواء المحيط، مساهمة في تبليغ الرسالة ورفع الشعائر وإتماما لما بدأه عقبة رحمه الله.
وبعد هذا التاريخ المجيد أفلا يحق لنا أن نفتخر بهذا الإرث العظيم؟ أو بالأحرى أفلا يجب علينا أن نحافظ عليه ونصونه ونبلغه لأبنائنا كما صانه أجدادنا وبلغوه لنا؟
أفلا يجب علينا أن نتفنن في أدائه والقيام به كما فعل ذلك الأسلاف؟ فإن لم نستطع الزيادة في التفنن في أدائه، أفليس من العار أن نخفضه ولا نعليه، أو ليس من العار أن نكتمه داخل المساجد ولا نرفعه من على الصوامع كما أمر الحق سبحانه؟
أو ليس هذا شعار الإسلام الذي يدل على هويتنا ويعلي همتنا؟
أوليس الأذان من الشعائر الربانية التي حذر الحق سبحانه وتعالى بانتهاكها، عندما قال سبحانه: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ»؟
فلم لا نحافظ على هذه الشعيرة لنسلم من الوعيد ونصون ديننا ونحظى بالفضل العظيم الذي يحظى به من أدى هذه الشعيرة العظيمة، والتي لا تدل إلا على الولاء لله عز وجل وتمام العبودية له سبحانه.
والله ولي التوفيق.
___________
(1) هذه الأقوال منقولة عن القرطبي في تفسير قوله تعالى: “وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزؤا ولعبا”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *