نقد فكر الفيلسوف ابن رشد الحفيد نقد موقف ابن رشد من السنة النبوية و مذهب أهل الحديث و مواضيع أخرى

رابعا: نقد موقف ابن رشد من وجود الشر في العالم:
اتخذ ابن رشد موقفين من مسألة وجود الشر في العالم، الأول ذكره في كتابه الكشف عن مناهج الأدلة نصّ فيه على أن الله تعالى خالق الخير والشر معا، على أن يُفهم ذلك بأنه (خالق للخير لذات الخير، وخالق للشر من أجل الخير)، بمعنى (من أجل ما يقترن به من الخير، فيكون على هذا خلقه عدلا منه).
وأما موقفه الثاني فذكره في كتابه الفلسفي تلخيص ما بعد الطبيعة، أكد فيه على أن كل ما هو على الأرض من خير محض، فهو عن إرادة من الله وقصد منه. وأما (الشرور فوجودها لضرورة الهيولى كالفساد والهرم وغير ذلك). بمعنى أنها ليست من الممكنات بالنسبة إلى الله تعالى، لأن الذين يرون أن (الأمور كلها ممكنة للإله تعالى. فلذلك يلزمهم ضرورة أن يُجوّزوه).
وأقول: أولا إن ابن رشد ناقض نقسه -كعادته- في موقفه من وجود الشر في الأرض، فمرة قال: إن الله خالق الخير والشر معا. ومرة استثنى الشر من أن يكون متعلقا بإرادة الله وقصده، وجعله من ضروريات الهيولى، ولم يجعله من الممكنات المتعلقة بإرادة الله وفعله وقصده واختياره. وهذا تناقض واضح، وموقف مُخالف للشرع، ولا دليل صحيح عليه من العقل، إلا إتباع الظن والقول على الله بلا علم.
وثانيا إن موقفه الأول من الخير والشر هو موقف صحيح موافق للشرع ذكره في كتاب عام وجهه لجمهور المسلمين. لكن موقفه الثاني مُخالف للشرع، وقد أورده في كتاب خاص موجه للفلاسفة، وهذه ازدواجية في الخطاب التي تعوّد عليها ابن رشد!!. علما بأن موقفه الثاني تُخالفه النصوص الشرعية صراحة، فقد نصّت على أن الله تعالى هو خالق كل ما في العالم، خلقه بإرادته وقدرته، وأنه تعالى فعال لما يريد، ويفعل ما يشاء ويختار. الأمر الذي يعني أنه لا يصح أبدا الزعم بأن الشر الموجود في العالم صدر بالضرورة، ولا علاقة له بإرادة الله واختياره. فهذا زعم باطل مُخالف لقوله تعالى: (وخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) سورة الفرقان: 2، و(مِن شَرِّ مَا خَلَقَ) سورة الفلق: 2، و(ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَّا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) سورة غافر: 62.
علما بأن الشر لم يُضف إلى الله تعالى في (الكتاب والسنة إلا على أحد وجوه ثلاثة: إما بطريق العموم كقوله: (الله خالق كل شيء) سورة الزمر: 62 وأما بطريقة إضافته إلى السبب كقوله: (من شر ما خلق) سورة الفلق: 2. ووإما أن يحذف فاعله كقول الجن: (وإنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا) سورة الجن: 10.
ومع أن الشر من مخلوقات الله تعالى، فهو لا يُنسب إليه مباشرة كصفة نقص وظلم، وإنما هو يندرج في حكمته تعالى وعدله ورحمته. لذا –والله أعلم- كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في دعاء الاستفتاح: (لبيك وسعديك، والخير كله في يديك، والشر ليس إليك). فلم يقل: الشر ليس من مخلوقاتك، وإنما قال: ليس إليك، فالفارق في المعنى كبير بين القولين.
وثالثا إن الشر في الأرض نوعان: نوع تسبب الإنسان في وجوده بسبب ظلمه وحروبه. ونوع خلقه الله تعالى ليُؤدي وظيفة حددها له وفق حكمته وعدله ورحمته، فيبتلي به عباده، ويُربيهم به، ويُجازي به الضالين والظالمين والمجرمين، قال تعالى: (وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) سورة الأنبياء: 35. وبما أن الشر من مخلوقات فإنه خلقه لأداء وظيفة مُحددة له بحكمة وإتقان، وليس صادرا بالضرورة واللزوم كما زعم ابن رشد.
وأما زعمه بأن جعل الشر من الممكنات، بمعنى أنه من مخلوقات الله تعالى، يلزم تجوير الله بالضرورة، بمعنى أنه ظالم لعباده. فهذا زعم باطل، لأن القول بأن الله خالق كل شيء لا يلزم وصفه بأنه ظالم، لأنه سبحانه فعال لما يريد، وعادل حكيم لا يظلم أحدا، خلق الشر ووضعه في مكانه المناسب بالحق والعدل والحكمة بلا جور ولا ظلم.
وزعمه بأن الشر ليس من الأفعال الممكنة لله تعالى، هو رد للشرع، ووصف لله بالنقص والعجز، وقول على الله بلا علم، ومناقض لما وصف الله به نفسه بأنه خالق كل شيء، وفعال لما يريد، وعلى كل شيء قدير، له الأسماء الحسنى والصفات العُلى.
ويُستنتج مما ذكرناه أن ابن رشد –في موقفه من قضية الخير والشر- لم يتخل عن طريقته التأويلية الباطنية، وعن ازدواجيته في الخطاب، ففي كتابه الكشف عن مناهج الأدلة ذكر رأيا ووجهه للجمهور، وفي كتابه تلخيص ما بعد الطبيعة ذكر رأيا مخالفا للأول هو رأيه الحقيقي من تلك القضية، وقد ناقشناه فيما ادعاه، وبينا خطأه في تأويله للشرع، وفي موقفه الفلسفي من وجود الشر على الأرض

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *