الترهيــب من الخيانــة (من الكبـائــر) إعداد: يونس السباح الطنجي الرقم المسلسل: (2)

الحمد لله الذي لا يهدي كيدَ الخائنين، ولا يحبُّ المتقاطعين المتباغضين، نشهد أن لا إله إلا هو ربُّ العالمين، ونشهد أنّ سيدنا محمداً عبد ورسوله الصادق الوعد الأمين، صلى الله وسلّم وبارك عليه وعلى آله الأشداء على الكفار الرحماء بينهم، وأصحابه السّاعين في مرضاة الله، والمصلحين ذات بينهم، وعلى التّابعين لهم بإحسان، من يطع الله ورسوله نال… الخ.
أما بعد: فيا مسلمون: قال الله سبحانه وتعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون). ذكر المفسّرون أن هذه الآية نزلت في أبي لُبابة حين بعثه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة لمَّا حاصرهم، وكان أهلُه وولدُه فيهم، فقالوا: يا أبا لُبابة، ما ترى لنا إن نزلنا على حُكم سعد فينا؟ فأشار أبو لبابة إلى حَلْقِه، -أي: أنَّه الذَّبح-، فلا تفعلوا، فكانت تلك منه خيانة لله ورسوله، قال أبو لُبابة: فما زالت قدَماي من مكاني حتى عرفت أني خُنت اللهَ ورسولَه.
هذا أبو لبابة فعل ما فعل مدفوعاً بحبّ السّلامة لأهله وأولاده، حفاظاً عليهم وعطفاً، وهم بين أعدائه، فلم يشعر حتى أشار عليهم أن لا ينزلوا على حكم سعد، سفير رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، وأشار بيده إلى حلقه دون أن يصرّح لهم بأنّ قبول ذلك معناه الذّبح، ثم ما زال من مكانه ذلك حتى شَعَر أنه خان الله ورسوله، ونزل القرآن يكشف عن الأمر، وينهَى المومنين عن خيانة الله والرسول، وخيانة الأمانات التي منها الأعمال والفرائض، التي ائتمن الله عباده عليها، فلا تجوز خيانتها بالنّقض والتّرك والتحريف. أمّا خيانة الله والرسول فهي معصيتهما، فكلّ من عصى الله ورسوله فقد خانهما، ونقض عهدهما.
وقد أكّد الله سبحانه وتعالى أنه لا يهدي كيد الخائنين، أي: لا يرشد كيد من خان أمانته، بمعنى أنّه يفتضح في العاقبة بحرمان الهداية، وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم الخيانة عموماً في جميع صورها وأشكالها من علامات النّفاق، فقال في الحديث الصحيح المشهور: (آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان). ونفى صلى الله عليه وسلم الإيمان عن الخائن، والدينَ عن مخالف الوعد، فقال فيما رواه أحمد والبزّار وغيرهما، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له).
والخيانة شرّ خصال المنافقين، وبعضها أقبح من بعض، فليست الخيانة في المال كالخيانة في العَرض، وليست الخيانة في الدنيا كالخيانة في الدّين، والمومن يمكن أن يتّصف بكل رذيلة، من السّرقة والسكر والزنا وغيرها، ما عدا الخيانةَ والكذب، فعن أبي أمامة رضي الله عنه مرفوعا: ( يُطبع المومن على كل شيء، ليس الخيانةَ والكذب)، وفي سنن أبي داود عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو: (اللهم إني أعوذ بك من الجُوع فإنه بئس الضجيع) ويقول: (إياكم والخيانة، فإنها بئست البطانة).
ولم ينزجر المسلمون ويكفوا عن هذه الخيانة، رغم ما جرت عليهم من ويلات ومصائب، وحلّت بهم بسببها من محن ونكبات، فقد كانت الخيانةُ -أخزاها الله- السبب المباشر في تفكيك روابط الدولة الإسلامية، وقطع أوصالها، وكانت البنزين الذي يزيد نارَ الفُرقة والخلاف اشتعالا، حتى أكَلَت هذه النارُ الأخضرَ واليابس، وأتت على القائم والحصيد، فانتهى الأمر إلى أن صرنا لعنةً للأولين، وعبرة للآخرين.
ذهبت أمجادُنا واحتُلت أوطاننا، وشوّه تاريخنا، وأصبحنا عالةً على غيرنا، بالقرب منا وعلى رَمية المدفع، الأندلس الشهيدة، وليست الأندلس ما يطلق عليه هذا الاسم اليوم من مقاطعة من مقاطعات إسبانيا، بل الأندلس التي فتحها العربُ والمسلمون، ما يشمل إسبانيا كلّها والبرتغال، هذه الأندلس، ذلك الفردوس المفقود انتُزع من يدنا، وأخيراً طُردنا منه بعدما نالنا من عذاب التَّقتيل والتحريف، والتمزيق والتشتيت، على يد زبانية العذاب، بمحاكم التّفتيش المشهورة، وكلّ هذا كان نتيجة الخيانة، ياويح المسلمين منها، فبعدما سقطت الخلافة الأموية بالأندلس، دبّت عقاربُ الخيانة، ففرقت الشَّمل، وحملت الأخُوّة على التّباغض والتدابر، فحدثت دُول الطَّوائف، وأصبح في كلّ مدينة أمير ومِنبر، وعلى رأس كل عمالة دولة وحكومة، ولم تَقبل الخيانةُ لهم أن يحسنوا جوار بعضهم بعضاً، ويعيشون في سلام ووئام، بل حرشت بينهم، وأغرت بعضهم ببعض، فلم يفتؤا في حرب وجلاد، حتى اندثرت معالمُهم، وذهبت طوائفهم، وكان من يغلب فيهم يلجأ إلى العدوّ الكافر المتربّص، يستنصره على أخيه، ويستنجده على ابن أبيه، وما كان هذا يفعل، حتى يشترط عليه النزول له عن البلد الفلاني، أو الحصن الفلاني، فيتنازل له هذا عن ذلك معصوبَ العينين بالخيانة، موغَر الصّدر بالضغينة.
وظلّت الحال هكذا إلى أن أذن الله بانفراط السّلك وانقطاعه، فتتابعت حبَّاته وكانت آخرها غرناطةَ الجميلة، التي تركها ابن الأحمر دامع العين، حزين القلب، تاركا وراءهُ آيات ماثلة، وآثاراً ناطقة بمجد الإسلام وعظمته، ولعنِ الخوَنة الظالمين، المفَرطين الناكثين، وها هو التّاريخ يعيد نفسه، فتسقط فلسطين الشهيدة، الأرض المقدسة، وأولى القبلتين، والبقعة ذات المسجد الذي بارك الله حوله، تسقط في يد حفنة من اليهود المجرمين، الذين قابلوا تفرق المسلمين باجتماعهم، وخيانتهم بأمانتهم، وضعفهم وكسلهم بقوتهم ونشاطهم، فأسسوا هناك دولتَهم، ورفعوا علمهم، وسط الدّول العربية والإسلامية التي لا تعرف إلا التّباغض والتدابر، والتناكر والتباعد، والدّس والخيانة، ومنذ عشرين سنة والقوم في غمرة الضّلال ساهون، وعن التّيقظ والإنابة لاهون، لا يحسنون إلا السّباب والشتائم، والرمي بالعظائم، حتى إذا بلغ السيل الزّبى ولم يعد في قوس الصبر منزع، تحرك هؤلاء في توانٍ وتخوّف من انقضاض بعضهم على بعض، الشيء الذي شجّع الأعداء على وضع العراقل في الطريق، ومحاولة تخذيل العرب، وإحباط مساعيهم، وهم الآن في تشاور وتفاوض على ما ينبغي عمله لإتمام ما ينوون من الغدر والمكر ونصرة اليهود، وصدق الله العظيم إذ يقول عن اليهود: (ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا -أي وجدوا- إلا بحبل من الله وحبل من الناس وباؤوا بغضب من الله).
ولا نرى هذا الحبل من النّاس إلا ذلك النفوذ والسلطة، والإعانة والنصرة، من انجلترا وأمريكا الدولتين الاستعماريتين العدوتين، لوليدتهم اللعينة إسرائيل قطع الله دابرهم أجمعين.
إن الدواء يا عباد الله في ديننا، والمصْل الشافي عندنا، والمريض أشرف على الهلاك، فلنتق الله فيه، (ولنصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور) ينفعني الله وإياكم بالقرآن المبين… إلخ.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *