من أثر القرآن في قلب الإنسان طارق برغاني

القرآن الكريم كلام الله المعجز، وهو الذكر الذي تطمئن به القلوب، “الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ” الرعد:28، “…قال مجاهد وقتادة وغيرهما: بالقرآن…” القرطبي:276/9، وتسكن به الأرواح وتصفو به الأنفس، به تنجلي الأحزان والهموم وتنكشف الكرب وتُيسر الأمور وتشفى الأسقام القلبية والبدنية، هذه الأثار وغيرها ملموسة بالمعايشة ومعاينة بالمشاهدة.
ووقع القرآن الكريم في العبد يستهدف القلب ابتداء كما باقي المركبات التي تشكَّل منها خلق الإنسان كالروح والنفس والعقل والجوارح، فينطلق هذا الأثر من القلب وعاء النور القرآني ليشمل ويعم باقي الأعضاء والعناصر الأخرى.
ربيع القلوب ونور الصدور
كالغيث النافع الذي يمطر على الأرض فتبتهج وتصير مخضرة نضرة تسر الناظرين، وكالشعاع المضيء الذي يقع نوره على القلب فينبثق ضياؤه على سائر الجسد، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم، “ما أصاب عبدًا قط همٌّ ولا حزنٌ فقال: اللهم إني عبدُك ابنُ عبدِك ابنُ أمتِك، ناصيتي بيدِك، ماضٍ فيّ حكمُك، عدلٌ فيّ قضاؤُك، أسألُك اللهم بكلِّ اسمٍ هو لك سميتَ به نفسَك، أو أنزلته في كتابِك، أو علمته أحدًا من خلقِك، أو استأثرت به في علمِ الغيبِ عندك أن تجعلَ القرآنَ العظيمَ ربيعَ قلبي، ونورَ صدري، وجلاءَ حزني، وذهابَ همّي وغمي، إلا أذهب اللهُ همَّه وغمَّه، وأبدله مكانه فرجًا، قالوا يا رسولَ اللهِ: ألا نتعلمهن؟ قال: بلى ينبغي لمن سمعهن أن يتعلمَهن” ابن القيم، الجواب الكافي: 159.
الربيع: هو المطر المنبت للربيع ومنه قوله في دعاء الاستسقاء: “اللهم اسقنا غيثا مغيثا ربيعا مربعا”، وهو المطر الوسمي الذي يسم الأرض بالنبات ومنه قوله :”القرآن ربيع للمؤمن”، فسأل الله أن يجعله ماء يحي به قلبه كما يحي الأرض بالربيع، ونورا لصدره …
ثم قوله: “ربيع قلبي ونور صدري” لأنه والله أعلم: الحيا لا يتعدى محله، بل إذا نزل الربيع بأرض أحياها، أما النور فإنه ينتشر ضوؤه عن محله، فلما كان الصدر حاويا للقلب جعل الربيع في القلب والنور في الصدر لانتشاره كما فسرته المشكاة، في قوله: “مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ۖ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ” وهو القلب…” مجموع فتاوى ابن تيمية: 18/311-312.

شفاء الصدور
الصدر محل القلب والقرآن طارد للأدواء القلبية والنفسية والحسية، “وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ ۙ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا” الإسراء: 82، مبطل لكل وساوس الجن والإنس التي قد تنال من صدور الناس، “يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ” يونس: 57.

تثبيت الأفئدة
القرآن الكريم أنيس الوحشة ورفيق الوحدة ومنبع الرحمة وطمأنينة القلوب وثبات الأفئدة، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم حسن قدوة وخير مثال لما جعل الله تعالى القرآن العظيم لقلبه تثبيتا على الحق، استقرارا على الصدق، “وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةًۚ كَذَٰلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَۖ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا” الفرقان:32.

تليين القلوب
وهو أثر يستتبع ما تحقق من سابقيه، فمتى طهر القلب من الأسقام وتحقق فيه الصدق واليقين، إلا ولان بسماع آيات الله تعالى وتلاوتها وتدبر معانيها والعمل بأحكامها ويقتضي تحقق هذا الأثر بلوغ درجة الخشية لله تعالى، “اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِۚ ذَٰلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُۚ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ” الزمر: 23، “…فإذا رأى متدبر القرآن كيف يصف الله القرآن بأنه تقشعر منه جلود المؤمنين، وتلين جلودهم له…أدرك أن هذا القرآن أنجع وسيلة تهز القلوب وتطير بها عن منحدرات القسوة وكهوف الرين…” إبراهيم بن عمر السكران، رقائق القرآن، ص: 66.

حال قلوبنا مع القرآن
ألم يحن الوقت أن نسائل أنفسنا اليوم قبل الغد، كيف حال قلوبنا مع القرآن؟ أنحن ممن يلازم تلاوته وتدبر معانيه والعمل به؟ أم من أولئك الذين هجروه وعطلوا أحكامه، وجعلوه زينة للبيوت والمكاتب والمكتبات؟ فنكون ممن اشتكى الرسول لربه منهم لتفريطنا في كتاب الله، “وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَٰذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا” الفرقان:30.
أم من أولئك الذين يجري القرآن على ألسنتهم يباهون به الناس ليقال عنهم قراء؟ وهو لم يستقر في قلوبهم، ولم يجاوز حتى تراقيهم، “جاء رجلٌ يقال له نَهِيكُ بنُ سنانٍ إلى عبدِاللهِ، فقال: يا أبا عبدِالرحمنِ! كيف تقرأ هذا الحرفَ ألفًا تجدُه أم ياءً: من ماءٍ غيرِ آسِنٍ أو من ماءٍ غيرِ يَاسِنٍ؟ قال فقال عبدُ اللهِ: وكلَّ القرآنِ قد أحصَيتَ غيرَ هذا؟ قال: إني لأقرأ المُفَصَّلَ في ركعةٍ، فقال عبدُ اللهِ: هَذًّا كهَذِّ الشِّعرِ؟ إنَّ أقوامًا يقرؤون القرآنَ لا يجاوزُ تراقيهم، ولكن إذا وقع في القلبِ فرسخ فيه، نَفَع. إنَّ أفضلَ الصلاةِ الركوعُ والسجودُ، إني لَأعلمُ النظائرَ التي كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يقرُنُ بينهنَّ، سورتَين في كلِّ ركعةٍ” مسلم: 822.
أم من أولئك الذين تنبأ الرسول بحالهم حين قال، “ألا إنَّهُ سيخرجُ من أُمَّتِي أقوامٌ أشدَّاءُ أحدَّاءُ ذلقةٌ ألسنتُهم بالقرآنِ لا يتجاوزُ تراقيَهم ألا إذا رأيتمُوهم فأثخِنُوهم إذا رأيتمُوهم فأثخِنُوهم فالمأجورِ قاتَلُهم اللهُ” مجمع الزوائد: 6/233.
فلنتأمل جيدا ولنقف وقفة مراجعة ومحاسبة عسى الله تعالى أن يبصرنا برحمته لحالنا ويرد بنا بتوفيقه إلى الاعتناء بكتابه والأخذ به.
اللهم اجعل القرآن العظيم لنا نورا في الدنيا والآخرة.
والحمد لله رب العالمين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *