كانت البشرية عامة، وشبه الجزيرة العربية بخاصة، تعيش جهلا كبيرا، فاقتضت حكمة الله أن يأتي الإسلام ليعالج المشاكل المطروحة ويجمع الشتات ويحُد من النزاعات الشخصية والقبلية والإقليمية، ويعطي لكل ذي حق حقه؛ فكان بذلك النص القرآني هو دستور الأمة، وبالموازاة كانت السنة النبوية موضحة ومبينة، ومن ثم فقد كان لزاما على كل مسلم أن يحترم هذا الدستور، بل أن يخضع إليه، ومن خالفه فقد خالف الشرع، وخالف “فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا”.
كما أن هذا الشرع قد تميز بصلاحه للناس جميعا زمانا ومكانا “وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً” فكان طبيعيا أن يحتكم الناس إليه كلما حلَّ بهم أمر فينظرون في النصوص (قرآنا وحديثا وفهما صحيحا) فإن لم يجدوا اجتهد علماؤهم المعتبَرون المتخصصون، وسكت الآخرون واشتغلوا بمشاغلهم، فالطبيب في تخصصه، والزراعي في مجاله، والصحافي في ميدانه، ويستفيد البعض من الآخر دون تطاول وتجاوز للحدود.
وهؤلاء العلماء المجتهدون، هم المؤهلون إلى اللجوء إلى القياس جاعلين الواقعة مقيسا ومثيلها في الشرع مقيسا عليه ليكون الحكم مقبولا شرعا ومنطقا.
أمَا وأن يكون العكس، فإن ذلك مرفوض من قبل الشرع والمنطق والمجتمع والقانون؛ فالذي يأتي إلى مسألة ثابتة في الشرع ثبوتا قطعيا فيتقوَّل فيها ويعطي الرأي والفكرة، وينمق قوله بألفاظ مثل أعتقد، وأرى، وأظن، وأقترح، وغير ذلك من التعابير التي لا تتوافق والأحكام الشرعية..
أقول: فالذي يقول مثل هذا الكلام إنما يخالف الشرع جملة، ويخالف بندا من بنود الدستور الثابتة، المبني على هذا الشرع، ويمس عواطف الناس، ويتهجم على أعرافهم التي ورثوها عن أسلافهم، ويدوس عقائدهم التي ثبتت عندهم وتشبثوا بها ودافعوا عنها وسيدافعون.
ففي كل يوم تطالعنا أفكار وآراء جديدة من مثل ما قيل، وهي إما منبثقة من تصريحات خاصة أو ندوات أو جمعيات أو اتجاهات فكرية أو حزبية معينة، فكثرت الأمثلة حتى انطبق عليها قول القائل:
تكاثرت الظباء على خراش *** فما يدري خراش ما يصيد
فمن هؤلاء من نقر على زر الاقتصاد وجعل الطرق غير الشرعية في التعاملات الربوية أمرا اقتضاه الواقع، ومن لم يلجأ إليه -في نظرهم- ويجعله وسيلة تنموية اقتصادية فهو متأخر ورجعي وظلامي، إطلاقات مجانية دون مراعاة لرأي “الآخر” ولا لحرية تفكيره، وتدينه، ولا تأدبا ولا خلقا؛ فهضم “حقوق الإنسان” في هذا الباب أهون، وفي غيره تقوم الدنيا وتقعد؛ أي ميزان أصبح القوم يُعيّرون به الموازين، فلا ندري؟! والله المستعان.
ومنهم من ركب موضوع تحرير المرأة وأغرقه بالكلام والدعاوي المخلة بالشرع والأصول الشرعية حتى اشمأزت من دعواهم المرأة نفسها، وجعلوا الواقع المعيش مطية يركبونها ليتجاوزوا شرع الله وحدوده. فليسأل هؤلاء أنفسهم متى كانت هذه المرأة مقيدة حتى يكلفوا أنفسهم عناء البحث عن حريتها؟
وفي الشرع عكس ما يفهمون وعكس ما يفعلون. وللاختصار، أشير فقط إلى الآية التي يدندن حولها هؤلاء المدعون: “وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنّ” ففي الآية دفع للشر وأسبابه وفيها من صيانة عرض المرأة وشرفها والحفاظ عليها ما يجعلها درة من الدرر الغالية التي ينبغي الحفاظ عليها وهي تؤدي مهمتها المنوطة بها والتي توافق خِلقتها وطبيعتها، وأما باقي متطلبات الحياة الأخرى فقد كلف بها الرجل لأنها تجانس خِلقته وطبيعته، وقد يتبادلان الأدوار إذا دعت الضرورة وتحققت الشروط كما في قول الله تعالى: “قالتا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ” وبهذا يحصل التكامل والتوافق؛ ونظريات التكامل في العلوم البحتة لا تخفى على من لهم الفطنة والبصر الثاقب. ويمهد لهذا الفهم جزء من الآية الذي تقدمتها: “فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ”، وفعلا، فلينظر ذوي الألباب إلى أبسط مثال في هذا المجال، وهو ابتذال صورة المرأة حيث استُغلت في الإشهار والمعارض والملصقات، والواجهات إنه استغلال حقيقي، يدعو كل غيور على المرأة حقا أن يسعى إلى تحريرها منه، وفي كل المجالات المثيرة جلبا للأنظار وربحا للزبائن كثرة وصنفا، فمن ذلك شتى أنواع أماكن استقبال الزبائن التي وضعت المرأة وضاعة لا يليق بشرفها وعزتها؛ أما في شرع الإسلام، فإن كثيرا من النصوص دافعت عن المرأة دفاعا حقيقيا يليق بمقامها، ويكفي المرأة فخرا في الإسلام أن الرسول صلى الله عليه وسلم أوصى بها خيرا في مناسبات عديدة، وقرنها بالصلاة كقوله صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم: “استوصوا بالنساء خيرا” وعند أبي داود وابن ماجة: “الصلاة الصلاة، اتقوا الله فيما ملكت أيمانكم”، قال الله تعالى: “فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُور”.
والمثال الأوضح في هذا السياق هو: “إغلاق دور القرآن” لأسباب واهية منبثقة من الواقع المعيش لم تعد خافية على أحد؛ وفي هذا تجني على أكبر حق من حقوق الأمة، ألا وهو التعلم والتفقه في الدين، والتربية والتنشئة الصالحة في ظل هذا التعلم، والنتائج الحميدة -التي تثبت ذلك- كثيرة، خلافا لما يروجه المدعون.
والأمثلة تطول، آخرها ما تصدعت به الأذان من سماع دعوى اقتسام الإرث بالمناصفة ضربا بعُرض الحائط النص القرآني القطعي الذي لا يقبل الرأي ولا الاجتهاد، ولكن الناس أرادوا أن يُخضعوا الإسلام لواقعهم بأي وجه كان، فليعلم هؤلاء المتعولمون أن شرع الله حكيم، وما من أمر حرمه الله إلا وفي تحريمه حكمة ربانية تفيد الفرد والمجتمع وفي مقابلها من الطيبات ما لا يعد ولا يحصى.