تقصيد السلوك وفق مقاصد الشريعة الإسلامية(2) عبد الحفيظ حميش: باحث في ديداكتيك العلوم الشرعية

سبق أن نشرت المقال الأول في جريدة السبيل العدد 223، وكان الأول من السلسلة التي اخترت لها عنوان: (تفعيل المقاصد)، وموضوع المقال السابق هو: “تقصيد الأقوال والأعمال وفق مقاصد الشريعة” وكما هو واضح من العنوان أنه تضمن نقطتين أساسيتين: تقصيد الأقوال أولا ثم الأعمال ثانيا، ولذلك أود أن أضيف عنصرا آخر؛ يرتبط ارتباطا وثيقا بالعنصرين السابقين، وهو في الحقيقة الحديث عليهما يسير؛ والفصل بينهما عسير، لذلك اخترت أن يكون عنوان المقال هذا الآتي:

تقصيد السلوك وفق مقاصد الشريعة الإسلامية.

إن الحديث عن سلوك الإنسان وفق مقاصد الشريعة، له تجليات مختلفة؛ وتمظهرات متنوعة، لذلك يمكن مقاربة هذا الموضوع من زوايا متعددة، باعتبار أن كل حركات الإنسان لاتخرج عن القول أو الفعل أو السلوك، وسأقتصر هنا على ذكر بعض السمات التي تتجلى فيها سلوكات الإنسان بوضوح وهي:

  • الصدق: إن الصدق خلق عظيم في الشريعة الإسلامية، وذلك لما يترتب عليه من جزاء عظيم؛ وثواب جزيل، ولكن لا تتحقق هذا الصفة وهذا الخلق العظيم؛ إلا بالمصالحة مع الذات، إذ إن الإنسان ينبغي أن يكون صادقا وصريحا مع الله أولا؛ ثم مع نفسه ثانيا ومع الناس ثالثا، فهذه الأمور إذا لم يحققها الإنسان فلا يكون صادقا مهما تمظهر وتظاهر بخلق الصدق، وإلا لا بد من يوم ينكشف وتظهر حقيقته وتسقط أقنعته، فالكذب حبله قصير؛ والصدق حبله طويل، وشتان بين هذا وذاك، لذلك جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “لَا يَزَالُ الْعَبْدُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا وَلَا يَزَالُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى ُيكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا“([1])

2-التعاون: إن من الصفات الحميدة والسلوك الحسن؛ الذي ينبغي أن يتصف به الإنسان المومن الصادق، هي صفة التعاون على الصلاح والفلاح؛ لا على الفسق والفجور، ومفهوم التعاون يشمل كبيرة الأشياء وصغيرها، فهو يحوي جميع أنواع البر والتقوى، كما قال الله تعالى: ” ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الاثم والعدوان واتقوا الله إن الله  شديد العقاب” (المائدة، جزء الآية: 2).

من خلال هذه الآية الكريمة يظهر أن الله سبحانه وتعالى يحث عباده المومنين على التعاون في أنواع البر والخير، كما نهاهم على التعاون في الاثم والفواحش، ومع العلم أن كلا الأمرين لا يضر الله شيئا، ولا ينفعه ؛ فالخير والأجر الذي يترتب على الخير ينتفع به الإنسان وحده، وكذلك الشر يضر به نفسه أيضا، كما قال الله تعالى: “فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره“(الزلزلة، الآية:7_8).

3_ الوفاء بالعهد: يعتبر الوفاء بالعهد مظهرا جميلا من مظاهر السلوك الحسن، وصفة إيمانية خلقية التي ينبغي أن يتخلق بها كل مسلم، ذلك أن ما نراه اليوم ونعيشه على مستوى الواقع من تدني الأخلاق والانحرافات الخطيرة، تنبئ بوضوح أن عدم الوفاء بالعهد أصبح شبه غائب لدى أغلب الناس إلا من رحم الله، ولذلك نجد الله سبحانه وتعالى يحث عباده على الالتزام بهذه الصفة الخلقية الحميدة؛ في أكثر من آية قال تعالى:” يأيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود“(المائدة:الآية:1)، وقال في آية أخرى “وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا“(الإسراء، جزءالآية: 33) وقد أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في أكثر من حديث على الوفاء بالعهود، كما حذرنا من خطورة عدم الالتزام بذلك، بل جعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك صفة من الصفات التي يعرف بها المومن الصادق من الانسان المنافق، ففي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “آية المنافق ثلاث: إذا حَدَّثَ كذب، وإذا وَعَدَ أخْلَف، وإذا ائْتُمِنَ خان “، وفي لفظ مسلم: ” وإن صام وصلَّى وزَعَم أنه مسلم ([2]).

إن عدم الالتزام بالعهود مظهر خطير؛ وعلامة من علامات النفاق، ولذلك فالمسلم الصادق الأمين يفي بوعوده ويلتزم بواجبه تجاه ربه أولا ومع من التزم معه من الناس ثانيا.

4_الأمانة: تنضاف صفة الأمانة إلى الصفات السابقة، وهي كلها مطلوبة ومأمور بها؛  والتحلي بهذه الأخلاق الحميدة التي تعبر عن السلوك الراقي التي يجب على المسلمين الالتزام به، ثم إن الله تعالى أمرنا بآداء الأمانات في غير ما موضع في القرآن الكريم قال الله تعالى:” إن الله يامركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل”(النساء، الآية: 56).،كما نجد أيضا في السنة النبوية أكثر من حديث يحثنا فيه النبي صلى الله عليه وسلم على آداء الأمانات إلى أهلها وإلى أصحابها ؛ وحتى مع غير المسلمين، روى الترمذي وأبو داود عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك” ([3]).

وجملة القول: لما نتأمل في السلوكات  والصفات السالف ذكرها؛ ندرك حقيقة علمية مفادها: أن كل حركات الإنسان لها مقصود وهدف، وأن جميع أقواله وأفعاله وسلوكاته تسير فوق مقاصد وأهداف، وبالتالي: إذا كانت المقاصد حسنة؛ يكون أجرها وثوابها جزيل، وإذا كانت سيئة ترتب عنها عقاب وعذاب أليم، نسأل الله تعالى أن يحسن أعمالنا وأخلاقنا؛ وأن يرزقنا الصدق في القول والعمل؛ والحمد لله من قبل ومن بعد.

————————
[1] – مسند أبي داود الطيالسي، تحقيق الدكتور محمد بن عبد المحسن التركي، الناشر: دار هجر – مصر،

الطبعة: الأولى، 1419 هـ /1999 م،ج4، ص:244

[2] – كتاب الإيمان، لابن تيمية، تحقيق: محمد ناصر الدين الألباني الناشر: المكتب الإسلامي، عمان، الأردن الطبعة: الخامسة، 1416هـ/1996م 1/168.

[3]  التفسير الوسيط للقرآن الكريم، محمد سيد طنطاوي، دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، الفجالة – القاهرة

الطبعة: الأولى،1997م،4/9.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *