حمل المغاربة على فتح صدورهم لمالك والأشعري والجنيد -الحلقة الرابعة- الدكتور محمد وراضي

إن كان المغاربة ولا يزالون -حسب الادعاء الرسمي نفسه- على طريقة الجنيد، فما هي هذه الطريقة؟

هل هو الذي وضعها بعد أن لم تكن معروفة قبله حتى تنسب إليه، خاصة وأن ابن خلدون يقول: “التصوف علم حادث في الملة”؟
أم إنه أخذها عن غيره شيخا وراء شيخ صعودا إلى قدوة الجميع الذي هو آخر المربين من الأنبياء والرسل؟
يسوق إلينا الدكتور حسن جلاب في الجزء الأول من كتابه القيم “الحركة الصوفية بمراكش وأثرها في الأدب” هذه الفقرة فيقول: “بنيت طريقة الجنيد بن محمد الزجاج (المتوفى سنة سبع وتسعين ومائتين للهجرة) على متابعة السنة ومراقبة الباطن، واختيار الصحو دون السكر، ورياضة النفس بالخلوة”.
هذا الكلام -بالنسبة إلينا- غير مسلم به كله، وإن شئنا قلنا: لا يصح أخذه على عواهنه.
إننا نقبل -كواجب علينا- بمتابعة السنة من باب قوله تعالى -والخطاب لنبيه صلى الله عليه وسلم-: }قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ}. ومن باب قوله سبحانه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً}.
ومعنى الآيتين هنا متكامل: الاقتداء في الدين بـ”الحجة البالغة” لأن الاقتداء به لا يعني غير السير على نهجه، أو على طريقته المؤدية لا محالة إلى الغاية القصوى في التعبد، ألا وهي رضا الرحمن عز وجل.
أما مراقبة الباطن التي لا يمكن ولا يجوز فصلها عن مراقبة الظاهر؛ فمجاهدة، حتى إن كانت ثقيلة على النفس، فلأنها ترمي إلى تحقيق هدفين متصلين:
1- التقوى: التي هي مخافة الله والعمل بطاعته وتجنب ما لا يرضيه.
2- الاستقامة: التي تعني بذل أقصى جهد ممكن كي يمارس العابد ليل نهار عملية التخلي والتحلي، حيث إنه في الأولى يحاول إحداث قطيعة بينه وبين الموبقات، بينما يلزمه في الثانية الاتصاف بما يقابلها من منجيات.
إنه إذن عمل تطهيري ينصب على الظاهر والباطن، فكما يراقب المؤمن حال بدنه وثوبه ومكان تعبده، يراقب سريرته حتى لا يتناقض ما تنطوي عليه مع سلوكه وهو يتبادل المنافع والمصالح مع الأقربين والأبعدين في حدود التعامل اليومي الذي هو مناسبة متاحة لاختبار الصلة الحقيقية بين ظاهرنا وباطننا.
وإلا فإن الخلوة بعيدا عن مزاحمة الناس بالركب والأكتاف، موقف سلبي، يحول دون الزهاد والمتبتلين واجتياز مراحل التخلي والتحلي في أمن وأمان.
فإن سلمنا بقبول متابعة الرسول ومراقبة الباطن (فرضا)، لأن هذا الثنائي من صميم الدين، فما الذي يعنيه الصحو والسكر لدى الجنيد ولدى من تقدموه أو جاءوا بعده من المحسوبين على التصوف؟
هل نبدأ بتحديد مفهوم الصحو؟
أم نبدأ بتحديد مفهوم السكر؟
مع العلم بأن الأول يأتي بعد الثاني، وأن هذا الثاني -إلى حد ما وبمعنى ما- يأتي بعد الأول؟
لغويا: صحا الرجل يصحو صحوا الرجل: أفاق وانتبه من نومه. وقد نقول: صحا باكرا بمعنى استيقظ. وصحا السكران معناه: أفاق من سكر أو من إغماء. فالسكر متولد عن تناول الخمر، والإغماء نتيجة لصدمة أو لمرض نفسي أو عقلي، مما يفيد بأن السكر والإغماء فترة جمود.
غير أن الثلاثة الذين خضعوا لهذه التجربة، قد يستردون نشاطهم وينصرفون إلى العمل المعتاد. أما إن بقي السكران في سكره، والمغمى عليه في إغمائه، والنائم في نومه، فمعناه الموت البطيء، أو ما هو شبيه به، خاصة متى تعلق الأمر بالمدمنين أو بالمصروعين، أو بفاقدي الذاكرة!
وماذا عن السكر؟
لغويا: هو اضطراب العقل من شرب الخمر أو الكحول أو ما يقوم مقامه. واضطراب العقل اهتزاز في الإدراك، وفقدان للتوازن بخروج السكير عن الوضع الطبيعي للإنسان العادي!
وقد نقول عن السكر: إنه كل ما يعتري الإنسان من نشوة، وإن لم يكن الخمر مصدرها، فهناك سكر السلطان! وسكر الظفر أو النجاح!
فلزم عندها الحديث عن “السكران” وعن “السكير”!
بما أن السكر في الجملة، خلل يصيب العقل والنفس والبدن، فإن خطره على السكير وعلى المدمن بالذات، خطر نتائجه مدركات غير متماسكة، كانت حسية أو كانت معنوية عقلية! وفقدان الشعور بالمكان والزمن! وتمايل ذات اليمين وذات الشمال! وإتيان لتصرفات مخلة بالآداب، لغياب سيطرة المراكز العليا للدماغ على الأعصاب والعضلات! ثم لغياب الأنا الأعلى أو الضمير الذي يخضع الشعور لرقابة صارمة! ثم ينكر السكير بعد صحوه كل ما أتاه!
إنه على أية حال فاقد للأهلية! غير مشمول بالحديث النبوي القائل: “رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الطفل حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يبرأ أو يعقل”!
نقول: إن المعنى اللغوي، أو المعاني اللغوية للصحو والسكر، تحيلنا فورا على المعنى أو على المعاني الاصطلاحية لهما.
عن الصحو يحدثنا عبد الكريم القشيري في رسالته فيقول: “الصحو رجوع إلى الإحساس بعد الغيبة! والسكر غيبة بوارد قوي (لا بالخمر أو غيرها).
والغيبة قد تكون للعباد بما يغلب على قلوبهم من موجب الرغبة والرهبة، ومقتضيات الخوف والرجاء (…) والعبد في حال سكره يشاهد الحال، وفي حال صحوه يشاهد العلم، إلا أنه في حال سكره محفوظ لا بتكلفه، وفي صحوه متحفظ بتصرفه. والصحو والسكر بعد الذوق والشرب”.
فالصوفي الخاضع لشروط الطريقة الثمانية التي سوف نذكرها ونحللها، لا يسكر ولا يغيب عن وعيه لتناوله نوعا من المسكرات المادية، وإنما لما يفاجئه من خواطر ومن واردات!
فالخواطر “خطابات ترد على الضمائر، فقد يكون الخطاب بإلقاء ملك(!!) أو إلقاء شيطان! أو أحاديث نفس! أو من الحق سبحانه!
أما الواردات فما يرد على القلوب من الخواطر المحمودة مما لا يكون بتعمد العبد (…).
فـ”الواردات أعم من الخواطر، لأن الخواطر تختص بنوع الخطاب، أو ما يتضمن معناه، والواردات تكون وارد سرور ووارد حزن ووارد قبض ووارد بسط إلى غير ذلك من المعاني”!
إن الخواطر والواردات إذن وراء سكر الصوفي أو غيبته، مما يعني أن بعد السكر صحوا، وأن بعد الغيبة حضورا.
فنكون هنا أمام حالتين: حالة وعي كاملة، وحالة غياب وعي كامل!
ولنقل حالة نوم وحالة يقظة، وحالة طفل وحالة احتلام، وحالة مجنون وحالة عاقل، بحيث إن هذا الثالوث كما ورد في حديث المدثر، غير مسؤول عن أقواله وعن أفعاله، إلا بعد أن يستيقظ الأول ويحتلم الثاني، ويعود الثالث إلى رشده.
وبما أن السكران بفعل الخواطر والواردات، لا يدخل في باب من رفع عنهم القلم، مما يعني أنهم مسؤولون في الحالتين كلتيهما. كانوا سكارى أو كانوا صاحين، لكن غلاة الصوفية يلتمسون لهم أعذارا من خلال محاولة تبرير أخطائهم التي هي طعن في الدين!
إنهم يحاولون تأويل ما صدر عنهم تأويلات أقرب ما تكون إلى لغة “أكلني البراغيث”.
فقد عقد أبو نصر السراج في “كتاب اللمع” بابا حول كلمات شطحيات تحكى عن أبي يزيد البسطامي، مع تفسير الجنيد لطرف منها! مما يدل دلالة قاطعة على أن طريقة هذا الأخير، ليست هي -كما يتوهم المغاربة- قائمة كلها على الكتاب والسنة!
فإن اجتهد في تأويل كلام البسطامي، وصرح بأنه يختار الصحو على السكر (نقصد الجنيد)، فلأنه يدرك خطورة ما يصدر عن الصوفي في حالة سكره! ولأنه يريد من سكيري الخواطر والواردات، أن يكونوا متحكمين في أحوالهم لا أن تكون أحوالهم هي المتحكمة فيهم!
ومن هنا كان ينهى تلميذه الحلاج عن إفشاء الأسرار الخاصة بالقوم (= الصوفية)! والتي كانت تلقى وراء أبواب موصدة! ولما لم يستجب لنهيه لقي المصير الذي وضع حدا لحياته بقتله!
إن الفاقدين لوعيهم كسكارى صوفيين، مسؤولون في حالتي الصحو والسكر، خاصة وأن التصوف كما عرفته شخصيا له موضوع لا يخرج عن كونه قناعات نظرية وممارسات عملية، وأن منهج دراسته منهج تأصيلي يقوم على أساس من عرض تلك القناعات وتلك الممارسات على الكتاب والسنة. كان من صدرت عنه في حالة سكر أو كان من صدرت عنه في حالة صحو.
بقي التأكيد على أن رياضة النفس بالخلوة -كأحد أسس بناء طريقة الجنيد- لا ينبغي أن تصرف الصوفي عن القيام بكامل واجباته الدينية والدنيوية.
ويرحم الله سلمان الفارسي عندما نصح أخاه أبا الدرداء -وهو مدبر عن الدنيا بالكلية أو يكاد- بقوله: “إن لنفسك عليك حقا، ولربك عليك حقا، ولضيفك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا. فأعط لكل ذي حق حقه”.
ولما راجع أبو الدرداء نبي الله المرشد المربي بخصوص ما حصل بينه وبين أخيه سلمان قال صلى الله عليه وسلم: “صدق سلمان”!

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *