إن من دواعي كتابة هذه المقالة؛ إبراز التشابه بين ما يتعرض له اليوم السياسيون الإسلاميون من ثورة مضادة تهدف -في جملة ما تهدف إليه-؛ إلى تنفير العلماء والمتدينين -بالترغيب والترهيبب- من مجال النضال السياسي؛ وما تعرضت له جمعية العلماء الجزائرية في عهد مؤسسها ورئيسها العلامة السلفي المصلح عبد الحميد بن باديس رحمه الله تعالى، وموقف أولئك العلماء من ذلك الاستهداف..
والشائع بين طلبة العلم أن الشيخ بن باديس وإخوانه العلماء؛ كانوا لا يرون مشروعية المشاركة في العمل السياسي المعاصر، ويرون ضرورة الاقتصار على التعليم الشرعي والإصلاح التربوي..
وقد ذاعت في هذا الصدد مقولته -التي أريد لها أن تنتشر دون غيرها-:
“إننا اخترنا الخطة الدينية على غيرها عن علم وبصيرة وتمسكا بما هو مناسب لفطرتنا وتربيتنا من النصح والإرشاد وبث الخير والثبات على وجه واحد، والسير في خط مستقيم.
وما كنا لنجد هذا كله إلا فيما تفرغنا له من خدمة العلم والدين، وفي خدمتهما أعظم خدمة وأنفعها للإنسانية عامة.
ولو أردنا أن ندخل الميدان السياسي لدخلناه جهرا ولضربنا فيه المثل بما عرف من ثباتنا وتضحيتنا، ولقدنا الأمة كلها للمطالبة بحقوقها ولكان أسهل شيء علينا أن نسير بها على ما نرسمه لها وأن نبلغ من نفوسنا إلى أقصى غايات التأثير عليها، فإن مما نعلمه ولا يخفى على غيرنا أن القائد الذي يقول للأمة: “إنك مظلومة في حقوقك إنني أريد إيصالك إليها” يجد منها ما لا يجده من يقول لها: “إنك ضالة عن أصول دينك وإنني أريد هدايتك” فذلك تلبية كلها، وهذا يقاومه معظمها أو شطرها، وهذا كله نعلمه.
ولكننا اخترنا ما اخترنا لما ذكرنا وبينا وإننا فيما اخترناه -بإذن الله- لماضون وعليه متوكلون”اهـ.
والصواب أن العلماء السلفيين في الجزائر كانت لهم مواقف سياسية ونضال سياسي واهتمام بالشأن العام في إطار رؤية شمولية تعطي الأولوية للإصلاح العلمي والتربوي..
وقد أبرز هذا التوجه؛ الشيخ بن باديس في محاضرة ألقاها في تونس تحت عنوان: “الحركة العلمية والسياسية في القطر الجزائري الشقيق” 1.
قال في مطلعها:
“وكلامنا اليوم عن العلم والسياسة معا؛ وقد يرى بعضهم أن هذا الباب صعب الدخول لأنهم تعودوا من العلماء الاقتصار على العلم والابتعاد عن مسالك السياسة.
مع أنه لابد لنا من الجمع بين السياسة والعلم، ولا ينهض العلم والدين حق النهوض إلا إذا نهضت السياسة بجد.
وإني أحدثكم لا بصفتي رئيسا لجمعية العلماء الجزائريين، تلك الجمعية الدينية المحضة التي لا تدخل لها في السياسة، وإنما أحدثكم اليوم بصفتي شخصا خدم الصحافة 12 عاما وخدم العلم 25 سنة فباسمي الخاص فقط أتكلم”اهـ. كلامه
وفيه إشارة إلى أن ما ذكره من عدم الخوض في السياسة؛ هو متعلق بالجمعية وليس موقفا شرعيا أملاه العلم.
وموقف الجمعية فرضته سلطات الاحتلال الفرنسي التي كانت تحاصر الأنشطة السياسية، وتعتبر الوعي السياسي عدوا من شأنه أن يؤلب عليها الشعوب التي ستنتفض للمطالبة بحقوقها ومنها: الحرية والاستقلال..
وهو السلوك نفسه الذي سلكه المستبدون الذين حكموا بعد الاستقلال؛ حيث عملوا على إبعاد الناس عموما والعلماء المصلحين خصوصا عن المجال السياسي؛ قصد الاستئثار بالثروات والإشراف على استمرار نفوذ المحتل وهيمنة مصالحه ومبادئه..
إن كلمة ابن باديس الشائعة في اجتناب العمل السياسي؛ لها سياق لا ينبغي إغفاله؛ وهو الرد على تصريحات المقيم العام (الحاكم الفرنسي) الذي كان يستهدف الجمعية؛ ومما جاء في الرد:
“ثم تصدى جنابه لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين فقال:
“وهؤلاء السياسيون تمكنوا من صد العلماء عن أعمالهم الطبيعية ومن إدخالهم في ميدان عمل خارج عن دائرة التعليم والتهذيب القرآني”.
لا بل الذي صد العلماء عن أعمالهم الطبيعية وعن التعليم والتهذيب القرآني؛ هو السلطة التي أوصدت المساجد في وجه وعظهم وإرشادهم وحالت بينهم وبين عامة إخوانهم، وأغلقت كثيرا من المكاتب الابتدائية العربية التي يقوم بالتعليم بها في جهات عديدة أفراد منهم، وأمسكت عن إعطاء الرخص بفتح المكاتب.
هذا هو الذي صد العلماء عن القيام بواجبهم، وأما السياسيون فإنهم ما حاولوا إدخال العلماء في السياسة وما كان العلماء -وقد نصبوا أنفسهم لشيء- أن يتداخلوا في شيء آخر، وقد أوقفوا وفودهم العلمية في الصائفة الماضية عن التنقل في جهات القطر تجنبا لكل رمي بالباطل، ومع ذلك لم يسلموا -مع الأسف- من مثل هذا القيل.
وبعد فإننا اخترنا الخطة الدينية على غيرها عن علم وبصيرة..”. إلـخ. كلامه الذي نقلت عنه في مطلع المقالة.
ثم قال بعده مباشرة:
“ثم ما هذا العيب الذي يعاب به العلماء المسلمون إذا شاركوا في السياسة؟ فهل خلت المجالس النيابية الكبرى والصغرى من رجال الديانات الأخرى؟
وهل كانت الأكاديمية الفرنسية خالية من آثار الوزير القسيس رشليو؟ أفيجوز الشيء ويحسن إذا كان من هنالك ويحرم ويقبح إذا كان من هنا؟
كلا؛ لا عيب ولا ملامة، وإنما لكل امرئ ما اختار، ويمدح ويذم على حسب سلوكه في اختياره”اهـ. بحروفه2
هذا هو الكلام بسياقه وسباقه؛ وهو يبرز الحقائق التالية:
1- أن سلطات الاحتلال كانت تعمل على بقاء العلماء في إطار التعليم والتهذيب الأخلاقي.
2- أنها تعارض بقوة مشاركة العلماء في المجال السياسي.
3- أن ابن باديس يدافع عن الجمعية ويصد محاولات استهدافها ببيان أنها لا تقوم بأية أنشطة سياسية.
4- أن هذا الموقف لا ينبغي أن نجعل منه سلوكا عاما أو مبدأ شرعيا، بل من حق العلماء أن يشاركوا في الحياة السياسية، ولو فعلوا لحققوا إصلاحات كثيرة.
لقد شرح الإمام ابن باديس خطة العلماء الإصلاحية الشمولية، في افتتاح السنة 13 من مجلة الشهاب؛ بقوله:
“سنخطو هذه الخطوة -إن شاء الله تعالى- على ما عرفه الناس من مبدئنا في الإصلاح الديني من ناحية العقائد والأخلاق والأفكار والأعمال، تصحيحا وتهذيبا وتنويرا وتقويما.
كل ذلك في دائرة الإسلام كما نزل به القرآن وبينته السنة ومضى عليه -علما وعملا- السلف الصالح من هذه الأمة.
وعلى ما عرفوه من مبدئنا في الإصلاح السياسي؛ وهو المحافظة التامة على جميع مقوماتنا ومميزاتنا كأمة لها مقوماتها ومميزاتها، والمطالبة بجميع حقوقنا السياسية والاجتماعية لجميع طبقاتنا دون الرضى بأي تنقيص أو أي تمييز كما قمنا بما أوجب علينا.
والتعاون على هذين الأساسين مع كل أحد من أي جنس وأي دين مد يده للتعاون معنا.
وقد بلغنا -والحمد لله- من النجاح في الإصلاح الديني أن أصبح الذين يعارضوننا لا يستطيعون أن يروجوا لأنفسهم إلا باسم العلم والكتاب والسنة؛ وفقهم الله إلى ما يصدقهم.
وبلغنا -والحمد لله- من النجاح في الإصلاح السياسي أن أصبح أمر المحافظة على شخصيتنا أمرا إجماعيا حتى ممن كان لا يباليه أو لا يشعر به، ومعترفا به -رسميا- شيئا ضروريا في كل برنامج يوضع للجزائر”اهـ. بالحرف3
وبهذا نخلص إلى القول بأن علماء السلفية في الجزائر لم يشذوا عن جماهير إخوانهم في العالم الإسلامي الذين كانوا يرون ضرورة المشاركة في المجال السياسي مع ما فيه من تجاوزات؛ وذلك بنية تخفيف الشر وتقليل الفساد وإحقاق الحق بالقدر الممكن، وبنية مدافعة المستبدين الذين استأثروا بالسلطة والثروة وهيمنوا على الإعلام والاقتصاد ومراكز القرار؛ فطغوا في البلاد وأكثروا فيها الفساد..
{وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة: 251].
—————————-
1-نشرتها جريدة “الزهرة” عدد 21 و22 ربيع الأول، ثم نشرت في كتاب “آثار ابن باديس” (ج 4 ص 330).
2- آثار ابن باديس (ج3/ص:294-295-296).
3- آثار ابن باديس (ج 4 ص:361).