لا تزال أبصار الحركات النسائية اليسارية العلمانية شاخصة، منذ أن أمر أمير المؤمنين محمد السادس وفقه الله للخير، وشفاه شفاء لا يغادر سقما، لجنة خاصة بإعادة النظر في “مدونة الأحوال الشخصية” التي تحولت إلى “مدونة الأسرة”، وآخر محاولاتها لتبديل شريعة الإرث الإسلامية عقدها لورشة عمل بكلية العلوم التقنية والاقتصادية والاجتماعية أكدال، جامعة محمد الخامس بالرباط، بتاريخ 14 يونيو 2022 صباحا، منعقدة تحت عنوان: “نظام الإرث في المغرب، ما هي آراء المغاربة؟” لمدارسة تقرير تحت عين مجموعة من الهيئات النسائية والحقوقية، منها جمعية النساء المغربيات للبحث والتنمية، والمنظمة المغربية لحقوق الإنسان تحت إشراف مليكة بن الراضي، منسقة المشروع، ولجنة علمية، وكان التقرير مبنيا على استطلاع رأي عام، شمل عينة من 1200 شخص من نحو 39000000 مغربي، زعم القائمون عليه أنه كان ميدانيا، واعتمد في زعمهم على مناهج علمية دقيقة وموضوعية وأنه غطى جميع التراب الوطني، وكانت نتائج الاستطلاع أن 44 في المائة أقروا النظام الإسلامي للإرث، وأن 36 في المائة طالبت بإعادة النظر فيه، وامتنع 20 في المائة من إبداء رأي في ذلك.
كان البحث والتقرير المبني عليه يقصد إلى هدم ثلاثة أصول في “قانون الإرث الإسلامي”، وقد صرحت مليكة بن الراضي أن قوله تعالى : ﴿للذكر مثل حظ الأنثيين﴾ قاعدة تمييزية ضد المرأة مخالفة لمقتضى “العدل”، ومثلها قانون التعصيب وقانون منع المرأة الكتابية من الإرث في مال زوجها المسلم، لقوله عليه الصلاة والسلام “لا يرث الكافر المسلم”.
زعم القائمون على البحث أن “مبرراته!” ثلاثة: الأول دستوري، وهو وجوب المساواة بين الرجل والمرأة، والثاني سوسيو اقتصادي واجتماعي وهو أن المرأة المغربية أصبحت معيلة هي أيضا ولها إسهام اقتصادي، وأن نظام الإرث الإسلامي أصبح قديما جدا، لأنه مبني على “العصبية القبلية” كما يقول “الحسن الإدريسي”، “رئيس المنظمة المغربية لحقوق الإنسان” ولا يناسب هذه الحالة الجديدة، والثالث مبرر حقوقي، وهو يعتمد على تقارير المنظمات الحقوقية والنسائية، مع وجوب اعتبار القوانين الدولية سامية على التشريع الوطني.
أول الملاحظات العلمية على هذا، أننا لا نثق في القائمين على البحث والتقرير، فظاهر جدا أنه كان موجها بأيديولوجية يسارية علمانية، والخصم لا يمكن أن يكون “حكما عدلا”، ودليل هذا أمران، أنه يمكن لجمعيات أخرى مخالفة أن تقوم بنفس العمل وتخلص إلى نتائج مغايرة، والثاني أنه لم يشارك في البحث طرف مخالف.
الملاحظة الأولى، أننا لا نثق بمثل هذه المناهج في الاستطلاع والبحث الميداني، فالاعتماد على نسبة مائوية من “1200” شخص لتعميمها على نحو 39000000 مليون مغربي أمر سخيف جدا، لسبب واحد، وهو أن البحث العلمي قائم على الاستقراء، وليس ما فعله هؤلاء اليساريون استقراءً علميا، فكيف يعقل أن ننتقل من 1200 إلى 39000000، والنسبة بينهما 3.69 في المائة.
الملاحظة الثانية أنه لم يشارك في هذا متخصصون في الشريعة الإسلامية ،وفي المغرب “مجلس علمي أعلى” ومجالس علمية محلية، و”الرابطة المحمدية للعلماء”، وغيرها، وهذا يوقع في النفس ريبة وشكا في صدق القائمين على البحث والتقرير.
الملاحظة الثالثة أن هذه المحاولات كانت سببا في أن شكلت لجنة علمية متخصصة عالية المقام بأمر من أمير المؤمنين محمد السادس وفقه الله للخير بظهير شريف مؤرخ بـ12 ذي الحجة 1424 هـ، الموافق لـ3 فبراير 2004م، بإعادة النظر في “المدونة”، وخلص الأمر إلى أن صدرت “مدونة الأسرة” بتعديلات مناسبة لم تخرج عن الفقه الإسلامي، ثم الدستور المغربي، ونصت ديباجة “المدونة” على ما يبطل كل محاولات هذه الهيئات النسائية والحقوقية اليسارية، وأجتزئ منها من تحيين 29 يوليو 2021:
«سلك جلالة الملك محمد السادس، نصره الله، منذ تقلده الأمانة العظمى لإمارة المؤمنين، مسلك الحكمة وبعد النظر، في تحقيق هذا الهدف الأسمى، فكلف لجنة ملكية استشارية من أفاضل العلماء والخبراء، من الرجال والنساء، متعددة المشارب ومتنوعة التخصصات، بإجراء مراجعة جوهرية لمدونة الأحوال الشخصية، كما حرص جلالته، أعزه الله على تزويد هذه اللجنة باستمرار، بإرشاداته النيرة، وتوجيهاته السامية، بغية إعداد مشروع مدونة جديدة للأسرة، مشددا على الالتزام بأحكام الشرع، ومقاصد الإسلام السمحة، وداعيا إلى إعمال الاجتهاد في استنباط الأحكام، مع الاستهداء بما تقتضيه روح العصر والتطور، والتزام المملكة بحقوق الإنسان كما هو متعارف عليها عالميا».
ففي هذا النص التنبيه على أربعة أمور:
الأول، أن اللجنة كانت مكونة من “أفاضل العلماء والخبراء، من الرجال والنساء، متعددة المشارب ومتنوعة التخصصات”.
الثاني، أن “التعديلات” كانت مرعية بـ”إرشادات نيرة وتوجيهات سامية” لملك البلاد.
الثالث، أن تلك الإرشادات شددت على وجوب “الالتزام بأحكام الشرع، ومقاصد الإسلام السمحة”.
الرابع، أن تلك التوجيهات دعت إلى الاستهداء بما تقتضيه روح العصر والتطور، والتزام المملكة بحثوث الإنسان كما هو متعارف عليها عالميا”.
فلماذا كل هذا الشغب والتشويش مرة أخرى إذن، ألم يكفهم كل هذا ما فعله أمير المؤمنين وفقه الله متخصصة وافرة الموارد، لها من الإمكانيات ما يفوق ما عند هذه الجمعيات بمئات المرات، ومن العجيب أن تصرح الأستاذة مليكة بأن الـ36 في المائة التي دعت إلى إعادة النظر في أحكام الإرث الإسلامي في مدونة الأسرة رأت أن السلطة الملكية هي التي يمكنها أن تعالج هذا التمييز، وهذا عجيب جدا جدا!!! فهل يعي هؤلاء ما الذي يخرج من أفواههم؟!
الملاحظة الرابعة، أن المبررات التي اعتمدها البحث ساقطة، فقد نص الدستور على “المساواة”، كما نص على “العدل”، وقد لا يكون العدل أحيانا في المساواة، ولذلك خص الإسلام “البنت” بنصف التركة إذا لم يكن معها أخ ذكر يقوم بأمرها، بموجب الرحم وقانون النفقة في الشريعة، ضمانا لحقها، وأما الذكر فينتظر ما بقي بعد قسمة الفرائض، وأما الإشارة إلى أن القوانين الدولية تسمو على التشريع الوطني، فصحيح، سوى أنهم لا يفصحون عن قيد مقارن، وهو قول الديباجة: “في نطاق أحكام الدستور، وقوانين المملكة، وهويتها الوطنية الراسخة”، ومن أحكام الدستور “الإسلام دين الدولة”، وفي الفصل 19: “وكل ذلك في نطاق أحكام الدستور وثوابت المملكة وقوانينها”.
الملاحظة الخامسة، أن مسألة إعالة المرأة المغربية للأسرة اضطرارا حالة مرضية غير مرضية، فلا يجوز جعلها “مبررا”، لأن الواجب “رفع” ذلك، بقانون “النفقات” وواجب الدولة في الحفاظ على المرأة المغربية المستضعفة بعدم جعلها ضحية لظروف اجتماعية تدفعها للخروج للعمل مضطرة، فالحل هو “توفير النفقة للمرأة المغربية” المستضعفة، وتفعيل قانون النفقات، وليس التصفيق لها، وإقرارها على تلك الحالة، وأما من كانت تعيل لغير ضرورة ولا اضطرار، وكان ذلك منها من باب الفضل والكرم، فلا يجوز أن يجعل مبررا للدعوة لتبديل الشريعة.
الملاحظة السادسة، تخص دعوى الإدريسي أن نظام الإرث في الإسلام قديم، بل فيه ما هو أقدم من الإسلام، لأنه كان يعتمد على “القبلية العصبية”، فهذه دعوى قبيحة جدا، فالإسلام جاء لمحاربة العصبية والعلمانية، لا للدعوة إليهما.
الملاحظة السابعة، تخص الزعيمة نبيلة منيب، والتي كانت ذكية، فولجت الأمر من باب “مقاصد الشريعة”، وهذا أمر مثير، وأعتقد أن ذلك كان منها “نكتة”، أضحك الله سنها.