حـوارات فكرية قناديل لإنارة الطريق.. د. البشير عصام

 

المقدمة الشعارية للسلسلة

الذل والضعف وفساد العمل.. كل ذلك راجع إلى خلل الأفكار.

وطريق إصلاحها في الحوار..

وهو طريق طويل تحيط به ظلمات، تحتاج إلى قناديل تزيل غبشها، وتقود إلى الضياء الماثل في آخر النفق.

 

الحلقة 2:

 

زاد الطريق -1-

 

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.

لا يمكن لحوار أن يثمر، إن لم يكن قائما على أسس فكرية ومنهجية مشتركة بين الأطراف المتحاورة. وحوارنا هذا لا يخرج عن هذه القاعدة. فنحن محتاجون إذن -في طريقنا الحواري الطويل- إلى زاد من القواعد، التي لا بد أن تكون من المسلّمات بين المتحاورين.

وأولى هذه القواعد: أصل التسليم للنص الشرعي([1]).

وهل يحتاج هذا الأصل إلى استدلال؟!

إن حقيقة الإسلام هي التسليم للوحي، وإن المسلم حين يعلن إسلامه، فإنه يعلن بوضوح لا غبش فيه، أنه يعتقد وجوب الانقياد والخضوع للنصوص الشرعية.

وأي معنى لأن تعتقد أن هذا النص هو من كلام ربك وخالقك ورازقك والمنعم عليك -وهذا مقتضى كونك مؤمنا–؛ ثم أنت لا تخضع لِما تفهمه من هذا النص، ولا يسلّم له عقلك، ولا يلين له قلبك، ولا تخشع له جوارحك؟!

إن استحضار عظمة المتكلِّم، يجتثّ من القلب الاعتراض على كلامه، وينتزع منه عدم الانقياد له!

وأي معنى لأن تعتقد أن هذا النص الآخر من كلام نبيك، الذي أرسله الله إليك لهدايتك وإرشادك وبيان الحق لك وللناس أجمعين؛ ثم أنت تتكلف التأويلات لدفعه وإهداره، وإبطال معناه؟!

وما أحسن قول ابن القيم: “ولقد خاطبت يوما بعض أكابر هؤلاء فقلت له: سألتك بالله، لو قدّر أن الرسول حيّ بين أظهرنا، وقد واجهنا بكلامه وبخطابه: أكان فرضا علينا أن نتبعه من غير أن نعرضه على رأي غيره وكلامه ومذهبه، أم لا نتبعه حتى نعرض ما سمعناه منه على آراء الناس وعقولهم؟ فقال: بل كان الفرض المبادرة إلى الامتثال من غير التفات إلى سواه. فقلت: فما الذي نسخ هذا الفرض عنا؟ وبأي شيء نُسخ؟ فوضع إصبعه على فيه، وبقي باهتا متحيرا وما نطق بكلمة” (مدارج السالكين 2/388).

ومع وضوح هذا المعنى، فإن النصوص الشرعية متكاثرة في تقريره. فتدبّر مثلا قول الله تعالى: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك في ما شجر بينهم، ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت، ويسلموا تسليما)، وتأمل قول سبحانه: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم). وارجع إلى كتاب الله منصفا، متجردا من كل فكرة مسبقة، تجد الدعوة إلى التسليم والانقياد، فكرة حاضرة بقوة ووضوح!

وتأمل بعد ذلك تعامل الصحابة –رضوان الله عليهم– مع النصوص الإلهية والنبوية، وتعامل الأئمة من بعدهم مع هذه النصوص، تجد الإذعان في أبهى صوره، والسمو البشري في تمام الخضوع للخطاب الإلهي.

ومجالات التسليم للنص كثيرة، لكنها تدور على محورين كبيرين:

  • التسليم للأخبار خاصة الغيبيات (واسأل نفسك: كيف تصدق أن الرسول أوحي إليه مِن خالق الكون، ويعسر عليك أن تصدق ببعض أمور الغيب التي لا تدركها بحواسك؟!).
  • التسليم للأمر والنهي، بجعل النص حاكما لا محكوما (واسأل نفسك أيضا: كيف تعتقد أن قانونا بشريا يمكن أن يكون أفضل من الشرائع الإلهية التي شرعها لك رب العالمين، الحكيم الخبير سبحانه؟!).

ونحن حين نقرر أن وجوب التسليم للوحي مبدأٌ شرعي، فلا ينفي ذلك كونه مبدأ عقليا أيضا.

وبيان ذلك: أن العقل يثبت أن الخبر من مصادر المعرفة المعتبرة، ويثبت أن التصديق بالخبر واجب إذا اجتمع فيه شرطان، هما:

  • أن تثبت نسبته إلى قائله،
  • وأن يكون قائله معصوما من الكذب أو الغلط.

وهذان الشرطان –وهما متوفران في نصوص القرآن والسنة النبوية الصحيحة- مبيّنان في قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه، حين قيل له إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يزعم أنه أسري به إلى بيت المقدس ورجع إلى مكة في ليلة واحدة، فقال: (إن كان قاله فقد صدق، وإنا لنصدقه فيما هو أبعد من هذا، نصدقه على خبر السماء).

والتصديق بثبوت الخبر أول مقامات التسليم، ثم يأتي بعده مقام قبول المعنى الصحيح، وإن خالف هوى النفس، أو المستقر في العقل.

وإذا وصلنا إلى هذا القدر، فلعل معترضا يقول: “أنا أسلّم للنص وأخضع له، ولكنني لا أسلم لفهمكم للنص، ولا لأفهام الفقهاء عبر تاريخ الأمة، بل أنا أعتدّ بفهمي الخاص، وأنا رجل وهم رجال!”.

وهذ الاعتراض مهم، وهو من أعظم المقدمات العقلية المجردة التي تحجب عن المسلم نور التسليم للنص الشرعي، ولكنه اعتراض لم يأت وقت مناقشته بعدُ، بل له موضعه في هذه الطريق الحواري، سنعطيه فيه –إن شاء الله- حقَّه غير منقوص!

لكن كلامي هنا عن معنى مجرّد لا ينبغي لمسلم أن ينازع فيه، وهو وجوب التسليم لما تفهمه من النص وتتيقنه دون أدنى شبهة. وهذا شيء مستقر في قلب كل أحد، لا يطلع عليه إلا الله سبحانه، وإن حاول بعض الناس أن يستره بشبهات وجدالات.

أحدثك إذن عن هذا الفهم الذي قام بقلبك، بعد التجرد في البحث، والتدقيق في الاستدلال، وأدعوك إلى الالتزام به بصدق وإخلاص.

ولنا في الحلقة القادمة – بإذن الله – وقفة مع قاعدة أخرى من قواعد “زاد الطريق”!
—————————————
[1]– أحيل لفهم قضية التسليم للنص الشرعي على كتاب: “التسليم للنص الشرعي والمعارضات الفكرية المعاصرة” للدكتور فهد العجلان، وكتاب “ينبوع الغواية الفكرية” للأستاذ عبد الله العجيري. وقبل ذلك وبعده، على كتاب الله تعالى، فإن معاني التسليم في آياته أكثر وأعمق من أن تغيب عن المتدبر!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *