ما أبعد اليوم عن الأمس ذلك الأمس القريب، الذي سرت فيه ثقافة الفزع والخشية في نفوس جيل القنطرة كما تسري النار في الهشيم، يوم كان الشارع والوصيد مشغول بمقولة مفادها أن أمريكا تملك زر الفناء، وتحتفظ لنفسها -والغرب من وراءها- بحق الأسبقية على وضع الأصبع على ذلك الزر، ليحصل ضغط الانفجار الكوني فتفنى الدواب والهوام وتنتهي حكاية بني البشر عند نقطة غضب السيد الأبيض وأمريكا.
وهي تسوّق لهذه الأيديولوجية، استعانت في تبليغ مرادها إلى الشعوب المستهدفة من هذا القصف الفكري بصناعة سينمائية متطورة نجحت إلى حد ما عن طريق أبطال أفلامها الخيالية التي تحكي عن غزو الفضاء، ومقارعة الصحون التي تحمل كائنات فضائية تريد السوء بكوكبنا الأرض وعن طريق أبطالها المفتولي العضلات القليلي العدد والعدة؛ الذين يغزون ثكنات الفيتنام، وحصون روسيا لينشروا العدل ويحرروا الشعوب من قبضة الشيوعيين، ولم يكن ليكلفهم هذا الغزو إلا فرقة قليلة يرأسها بطل يفيض رفقا ووسامة وقوة وصلابة يحمل رشاشا يفني به النفوس الخبيثة ويقتل به الأشرار المعتدين على حرية الإنسان المقهور.
لقد نجحت هذه الصناعة في ملء حصة الأسد من هامش نظرتنا إلى هذا الغرب الصليبي، حيث أن جيلا كاملا كان لا يملك من الحقائق التاريخية عن قوة الغرب الغاشمة ضد شعوب الهنود الحمر وشعوب أمريكا اللاتينية وشعب الفيتنام المضطهد إلا ما جادت به الصور الهوليودية المتحركة بإتقان وسمعة ومكر ومتعة، وعين هذا الكلام يَصْدُق عن الصورة المهولة التي اختبرنا في حفظ وسرد أحداثها أحداث الحربين العالميتين؛ حرب يختزلها التاريخ الحق في معركة دارت بين ظلمة متغطرسين تنازعوا على قصعة كبيرة تحوي دولا مستضعفة قسمت بينهم ابتداء بغير سويَّة، فاعتركوا لإعادة صياغة انتداب جديد، وكان ميزان القوة متكافئا بين دول المحور ودول الوفاق، وساق المستبصر عابرَ السبيل والمستكرَهَ إلى ساحة الوغى سوقا، فشاركت شعوب الدول المحتلة إلى جانب الجلاد المستبد نشدانا للكرامة ورغبا في التحرر، ورهبا من أن تبيد عراها.
وتتمطط هذه النظرة لتشمل هذه الخلية السرطانية التي زرعت في جسد أمتنا زرعا صاحبة “الميركافا” التي لا يشق لها غبار والجيش الجبار الذي لا يخاف صارما بتاراً، عصابة سوّق لقوتها القريبُ وروّج لسمعتها الغريبُ، حتى بلغ الأمر من أهل النفاق أن يصدعوا بحتمية الخسران ورجحان الهزيمة.
فما أبعد ذلك الأمس عن هذا اليوم، يوم أشرقت فيه أنوار النصر وسطعت فيه أضواء الممانعة وزعزعت فيه نظريات التجبر، وكشفت معادن الادعاءات حتى وقف الغريب منبهرا، والقريب المنحاز مصدوما متحسرا، وهو الذي تثاقل إلى الأرض ومنعه الوهن وضعف اليقين في هازم الأحزاب جل جلاله.
إننا اليوم بفضل الله نزيل غبش النظرة “السينوغرافية” لهذه الأسُود الوَرقية من على أعيننا وتزيح هذه الغشاوة التي صنعها الأفاكون المدلسون مستعينين في هذا “المسح” بمحلول قطرات دماء الشهداء، وجراح الصامدين في ساحات الوغى الذين يصنعون أو يعيدون صياغة التاريخ لهذه الأمة الشريفة الخيرة، مستصحبين للمسموع والمنظور والمسطور الذي يحكي حكاية هزيمة الجنود المدججين بآخر صيحات السلاح المتطور جوا وبرا وبحرا، ويسرد لنا ولو بإعلام منحاز رواية انتصار القلة وفوز الثلة التي تداعت عليها دول مَن في الأرض جميعا، واتحد على قصعتها في العراق وفلسطين وأفغانستان المحور والوفاق، وتكالب عليها الرفاق وأهل النفاق.
فأين هذا من ذلك؟
وأي الحديثين يصلح أن نطلق عليه حقيقة لا زورا حربا عالمية وتكالبا كونيا..؟
وأيهما أجدر بالنياشين والأوسمة وإكليل الورد الذي يوضع على رمس الجندي المجهول؟
مسلمون شاركوا إلى جانب فرنسا وبريطانيا لدحض النازية المستبدة؟
أم مسلمون آثروا الجهاد في بلاد أمتهم؟
ثم ما هي المعايير التي روعيت ليبني الأمريكان نصبا تذكاريا لمواطن فرنسي آثر أن يشاركهم حروبهم ضد الإستعمار الإنجليزي؟
بينما يُنبَز الذين تركوا متاع الدنيا، غايتهم ردع الغاشم ودفع الغائر الظالم عن حمى عرض الأخوة وشرف الدين بالإجرام والإرهاب والمروق، ثم ما معنى أن نُشرْعِن دعم أمريكا والغرب لعصابة اليهود بالعتاد وأسلحة الدمار، وأن تشق السفن المحملة بحاويات العذاب وعلب القنابل المدمرة طريقها البحري في واضحة النهار، وأن تفتح لها قنوات القرن الإفريقي مع ضرب تحية تعظيم ومباركة لتضع حملها في مرافئ إسرائيل بسلام، بينما تتحرك الفرقاطة الفرنسية وأخواتها من الأسطول الغربي المجهز بالردارات والمروحيات التي ستتكفل بمنع ما يصطلح عليه “تهريب الأسلحة”.
بنادق رشاشات ومسحوق بارود وغذاء وماء ووقود وكهرباء، تهريب فيه ما فيه من انتهاك للأعراف الدولية، ومخالفة صريحة لقرارات الأمم المختلفة، تهريب يهدد “شعب الله المختار” وأنفاق تعادي السامية برؤوس مكروبية وأخرى نووية وثالثة فسفورية… مهزلة ورب الكعبة تضحك من في المهد، ويكاد يفيق من سخافتها من في اللحد.
والأهزل من هذا أن ينجلي الغبار عن هذا الفارس المغوار الذي قيل أنه لا يقهر ولا يتقهقر، لنكتشف أن الأمر لا يعدو أن يكون مقاولة هدم وشركة متخصصة في وأد الأحياء وقتل الأبرياء، فهذه الطائرة التي كنا ننظر إلى صانعيها نظرة سمو وتفوق تحولت اليوم إلى مقاصد قميئة، فاستعملها أهل الغدر لقذف القنابل وقصف البنيان لتمزيق الجثث وقتل الأحياء، وإحراق الأجساد بالغازات السامة والقنابل الحارقة، وتلك صنعة الأنذال الخبثاء، وهذا شأنهم من السماء.
أما على الأرض، فقد قال الأذناب لذويهم أننا لن ندخلها ما دام المجاهدون فيها، قوم جبارين يُحبّون الموت كما يحب الصهاينة الحياة، ويحرصون على عيش أطوار الحرب موقنين بأن النصر من عند الله، ويعلمون أن الفجوة الطائنة بيننا وبين الغرب على مستوى العتاد يملؤها الإيمان الذي هو مصدر العزة ومناط العلو ومادة التأييد والكفاية والمدافعة، وشرط المعية وزاد الولاية التي وعدنا الله بها، ولن يخلف الله وعده “اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ”، “فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ”، فحي على الإيمان، حي على الإسلام، أيها المجاهد ودعك من أولئك الخلوف الذين أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات وآثروا المفاوضات مع عدو لا يرقب فينا إلا ولا ذمة، فأحالهم التاريخ إلى زبالة الأحداث ونخالة المدنيات.