الإنسان بطبعه مجبول على حب الطيبات والاستكثار من الملذات، واندفاع الإنسان إلى توفير وسائل الراحة والرفاهية لا حدود له إلا من رزقه الله تعالى قلبا قنوعا ونفسا زاهدة في الكماليات وقليل ما هم، ومع تطور وسائل الترفيه والراحة في عصرنا وغلبة الفكر المادي والنفعي، صار الإنسان سريع الانسياق وراء الاستهلاك، شديد التنافس في توفير وسائل الترف الكمالي والتكاثر فيه، حتى نسي الناس دينهم وآخرتهم، يقول الله عز وجل: “أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ حَتَّىٰ زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ” التكاثر: 1-4، ويشمل هذا التكاثر مظاهر عدة أبرزها:
1. المال:
ويتخذ أشكالا متعددة: نقد، ذهب، ورق، خيل، حرث.. يقول الله تعالى: “زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ۗ ذَٰلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ” آل عمران:14.
وللمال قوة شديدة في اجتذاب النفس البشرية واستثارة ميولها إليه، لأنه الوسيلة الفعالة لنيل ما دونه من وسائل وأسباب مادية وحتى المعنوية من سلطة وجاه ومنصب ومكانة وغيرها، وهذا ما جعل البشرية على مر العصور تتنافس عليه وتسعى إلى الإكثار منه وإن كلفها ذلك الأنفس والأعراض، فتجد أمما تسطو على أخرى لتنهب ثرواتها، وأناسا يعبؤون كنوزا على حساب شقاء وبؤس أناس آخرين، والله تعالى يقول: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ ۚ وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا” النساء:29، وقوم ابتلاهم الله بالشح وجمع المال فألهاهم عن أداء حق الله فيه زكاة وصدقة، يقول الله عز وجل: “وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ” التوبة:34.
النساء والبنون:
التكاثر في هذا الجانب محمود في عمومه، ومرغب فيه مادام في إطاره الشرعي، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “تزوَّجوا الولودَ الودودَ، فإني مكاثرٌ بكمُ الأممَ يومَ القيامةِ” إرواء الغليل: 1784، أما ما نراه في هذا الزمان من تكاثر الفساد بالتبرج والسفور والعلاقات غير الشرعية والارتباطات اللامسؤولة والتكاثر في النسل الحرام، وتعدد حالات الاغتصاب والسفاح والحمل غير المشروع وتنامي مشاكل الخيانة وتضاعف حالات الطلاق، كل هذه الأشكال من التكاثر الفاسد إنما تؤسس لمجتمع سقيم وتنذر بمستقبل بائس. يقول الله تعالى: “ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ” الروم: 41
2. البنيان:
صراع محموم وحمى مستعرة اعترت أنفس كثير من الخلق واستثبت في قلوبهم، حتى صار الرجل يبيع كل ما يملك من حقول وبساتين ومواشي، ثم يهاجر من مستقره بالبادية لينتقل إلى المدينة، فيتطاول في البنيان ويتنطع في العمران مع ذوي العقار والأملاك، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذكره بعض العلامات الصغرى للساعة، في حديثه مع جبريل، حين قال: “وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء ، يتطاولون في البنيان” صحيح مسلم: 8.
وصار الموظف البسيط يكلف نفسه وعياله أعباء الاقتراض، ويُعسِّر أمور معيشته، فيلجأ إلى سلف ربوي لبناء منزل أو اقتناء شقة أوقطعة أرضية، وهو بصنيعه هذا يمحق بركة رزقه ويصر على كبيرة من الكبائر، وكأن امتلاك منزل وزخرفته قد صار هاجسه الوحيد وغايته القصوى في هذه الحياة، والله تعالى يقول: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ” البقرة: 278-279، وقوم أسرفوا في بناء العمارات الشاهقة والرياض المُبَستنة والقصور المنيفة بما يزيد عن الحاجة والكفاية، ويبرز فنون الترف وصنوف العظمة.
3. الاستهلاك:
التكاثر في الاستهلاك، ويشمل المأكل والمشرب والملبس والمركب، ويعم وسائل الترفيه والراحة من أثاث وأجهزة تلفاز وحواسيب وهواتف ومستقبلات رقمية وغيرها، بلا ضابط من الشرع أو العقل، فأصبح الإنسان لا يتوقف عن مجاراة واقتناء ما استجد في عالم الموضة والماركات الجديدة التي تغزو الأسواق كل يوم، فتاه وسط هذه الكثرة من السلع تلبية لشهوة الاستهلاك وإذعانا لسطان الشراء.
فعن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه: “قال جابر -ابن عبد الله-: اشتهى أهلي لحما فاشتريته لهم، فمررت بعمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: “ما هذا يا جابر؟” فأخبرته، فقال: “أو كلما اشتهى أحدكم شيئا جعله في بطنه، أما يخشى أن يكون من أهل هذه الآية: “أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ” الأحقاف: 20″. الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 16/202.
وما كل هذا التكاثر المذموم إلا بسبب الطمع والجشع وحب التباهي والظهور، وانعدام القناعة وافتقاد الكفاف واستحكام شهوة النفس، وتمجيد المادة وتقديس المصالح الشخصية، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “قد أفلحَ من أسلمَ، ورُزِقَ كفافًا، وقنَّعَه اللهُ بما آتاهُ” صحيح مسلم:1054.
فهذه المظاهر وغيرها لا تعدو في مجملها أعراضا دنيوية زائلة إلا ما استُعمل منها في خدمة الدين وصلاح الأمة وتحقيق غاية الاستخلاف، وتحمل مسؤولية الأمانة مع إخلاص النية لله تعالى وصدق المقصد، يقول الله تعالى: “اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْو وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ ۖ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا ۖ وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ ۚ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ” الحديد:20.
ويعلمنا النبي صلى الله عليه وسلم أفضل المال وأخْيَرَه، فعن ثوبان مولى رسول الله قال: لما نزلت: “وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ”، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، فقال بعض أصحابه: أنزلت في الذهب والفضة لو علمنا أي المال خير فنتخذه. فقال: أفضله لسان ذاكر، وقلب شاكر، وزوجة مؤمنة تعينه على إيمانه” سنن الترمذي:3094، حسن.
فليعلم الإنسان قبل أن يداهمه الموت، أنه موقوف غدا أمام الخالق، مسؤول عن كل صغيرة وكبيرة، يقول تعالى: “ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ” التكاثر:8، محاسب عن مثقال ذرة من عمله، يقول الحق سبحانه: “مَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ” الزلزلة:7-8.
اللهم ارزقنا القناعة والكفاف ولا تجعل نعمك علينا سببا لشقائنا إنك ولي ذلك والقادر عليه.
والحمد لله رب العالمين.