التصوف السني بالمغرب حقيقة أم خديعة الحلقة الخامسة أبو عبد الرحمن ذوالفقار بلعويدي

في هذا المقال سوف نستطرد -إن شاء الله- الكلام في زيادة بيان تهافت مذهب التصوف، ومقدار ما في دعوى دعاة تقسيمه إلى سني وغير سني من سخف فكري، وذلك لعلهم يرجعون إلى صوابهم، ويستشعرون خواء مواقفهم من أي منطق أو دليل.
وهم يحاولون تمييع العلاقة بين التصوف والسنة، باسم التصوف السني، أو التصوف السلفي، أو ما شابه ذلك من تركيب وتلفيق. حيث لا يتصور إمكان الجمع بينهما إلا في ذهن خادع يحاول استدراج العامة، أو مخدوع حائر، أو مصلحي لا يهمه نوع الخطر الذي يترتب على القارئ من آثار التغرير الذي يتضمنه هذا التلفيق.
لا سيما وأننا قد علمنا مما سبق من حلقات أن التصوف مذهب إشاراته غامضة، وعقائده متكتمة، وألفاظه مجملة تذهل الألباب، وتعابير أشياخه مبهمة تتيه فيها العقول. بل إشاراته هي من القتامة ما يكفي في تأرجح مواقف المدافعين عنه، واضطراب تصوراتهم وتقلبها، مما أوقع الكثير منهم في حيص بيص وضرب أخماس في أسداس، حتى قادهم الأمر إلى التناقض المثير للاستغراب.
وذلك كالذي وقع -على سبيل المثال لا الحصر- لأصحاب كتاب “التصوف السني وأعلامه بالمغرب” منشورات المجلس العلمي المحلي بالقنيطرة . حيث ذهب صاحب البحث الثاني في الصفحة 36 من الكتاب إلى إدراج قول أبي يزيد طيفور البسطامي ضمن من استشهد بأقوالهم كالجنيد بدعوى أنهم تقيدوا في تصوفهم بالكتاب وتحققوا في سلوكهم بالآثار والسنة.
وذلك بقول صاحب البحث: وقال أبو يزيد طيفور بن عيسى البسطامي “إذا رأيت من يطير في الهواء ويمشي على الماء، فلا يغرنك بفعله حتى تراه واقفا على الأمر والنهي”.
هذا في حين أن صاحب البحث الثالث من الكتاب المذكور عرض البسطامي في الصفحة 88 -حسب تقسيمهم الوهمي- ضمن مؤسسي التصوف المذموم الإشراقي الفلسفي. بقوله: “أما البسطامي الذي يعتبر من أوائل صوفية الحقائق، ومؤسسا للإتجاه الصوفي الإشراقي الفلسفي.. والذي سيسير عليه فيما بعد ابن عربي وابن سبعين وابن العريف، فلم يلق منهجه القبول مقارنة بمنهج الجنيد، بل إن هذا النوع من التصوف لقي معارضة قوية..”.
وفي هذا تناقض ظاهر بين الباحثين واضطراب بالغ.
البسطامي صوفي سني وصوفي فلسفي؟!!!

حقيقة التوحيد عند الصوفية
بالله عليك أيها القارئ هل تساءلت مع نفسك مثل ما تساءلتُ عن نوع هذا التوحيد الذي يعتقده الجنيد خاصة والصوفية عامة، وذلك عند قراءتي كلام الشعراني عنه بقوله: “وكان الجنيد رضي الله عنه لا يتكلم قط في علم التوحيد، إلا في قعر بيته بعد أن يغلق أبواب داره. ويأخذ مفاتيحها تحت وركه، ويقول: أتحبون أن يكذب الناس أولياء الله تعالى وخاصته، ويرمونهم بالزندقة والكفر”(1).
وكذا قوله: “وشهدوا على الجنيد، حين كان يقرر في علم التوحيد..”(2).
وهل تساءلت عند قراءتك مثل قول ابن عربي: “سئل الجنيد عن التوحيد فأجاب بكلام لم يفهم عنه. فقيل له: أعد الجواب فإنا ما فهمنا، فقال جوابا آخر، فقيل له: وهذا أغمض علينا من الأول…”(3).
أقول لك إعلم أولا أن إطلاق لفظ التوحيد هكذا في كلام الصوفية مضلل، فَهُم لا يريدون التوحيد المفهوم من دين الإسلام، والمتمثل في شهادة أن لا إله إلا الله، باعتقاد أن الله وحده سبحانه هو خالق هذا الكون المتصرف فيه، وأن الله وحده هو الذي يتقدم إليه العباد بالعبادة، وأنه سبحانه وحده هو الذي يتلقى منه العباد الشرائع؛ ويخضعون لحكمه؛ ويسلمون لأمره في شؤونهم كلها. لكن هذا المدلول الواضح للتوحيد، ليس هو المطلوب معنى عند الصوفية عند استعمالهم لفظ التوحيد، وإلا ما تكلف الجنيد إغلاق أبواب داره عند تقرير هذا التوحيد المنشود عندهم.
ولا يفهم من كلامي هذا أن الصوفية لا يثبتون هذا النوع من التوحيد، بل هم يثبتونه على الأقل حفظا لسرهم وصونا لأنفسهم من بطش أهل الشريعة بهم. لكن توحيد الكُمَّل من أهل الطريق في استعمال الصوفية هو توحيد خاص بهم لا يشاركهم فيه غيرهم.
يقول الشعراني عن الجنيد: “وكان رضي الله عنه يقول: لا ينبغي للفقير (أي الصوفي) قراءة كتب التوحيد الخاص، إلا بين المصدقين لأهل الطريق، أو المسلمين لهم، وإلا يخاف حصول المقت لمن كذبهم”(4).
وهذا الغزالي حجة الصوفية يبين مرادهم من هذا التخصيص بوضوح دون غبش أو غموض بقوله: “لا إله إلا الله توحيد العوام، ولا هو إلا هو توحيد الخواص”(5).
ويقول أيضا: (كما أنه لا إله إلا هو، فلا هو إلا هو، فإن عبارة هو عبارة عما إليه الإشارة، وكيفما كان فلا إشارة إلا إليه بل كلما أشرت فهو بالحقيقة الإشارة إليه)(6).
بمعنى أن كل ما تشير إليه بقولك “هو” في حال ذكرك لله، فهو الله تعالى، تعالى الله عما يقول الغزالي علوا كبيرا. وهذا يعني أن التوحيد في استعمال الصوفية المراد منه وحقيقة مدلوله عقيدة الاتحاد والحلول ووحدة الوجود. وهي تعادل الكفر والإلحاد عند أهل الشريعة.
لعل في هذا الكلام ما يكشف لنا عن سر أسرار اختيار الطريقة البودشيشية وِرْدَها المعتمد لمريديها بلفظ “هُوَ هُوَ”.
سبحان الله (لا اله إلا الله) توحيد العوام؟!!!
ولا هو إلا هو أو هذه الهوهوة أو قل إن شئت “هَوْهَوْ” توحيد الخواص؟!!!
أبى الغزالي إلا أن يبين أمر هذا التوحيد الخاص بهم، بيانا شافيا دون تكتم أو تخوف بقوله: “العارفون بعد العروج إلى سماء الحقيقة، اتفقوا على أنهم لم يروا في الوجود إلا الواحد الحق، ولكن منهم من كان لهم هذه الحالة عرفانا علميا، ومنهم من سار له ذوقا وحالا، وانتفت عنهم الكثرة بالكلية، واستغرقوا بالفردانية المحضة، واستهوت فيها عقولهم فساروا كالمبهوتين فيه، ولم يبق فيهم متسع لذكر غير الله ولا لذكر أنفسهم. فلم يبق عندهم إلا الله، فسكروا سكرا، وقع دونه سلطان عقولهم، فقال بعضهم: أنا الحق، وقال الآخر: سبحاني ما أعظم شاني. وقال الآخر: ما في الجبة إلا الله… وتسمى هذه الحالة بالإضافة إلى المستغرق فيها بلسان المجاز: اتحادا، وبلسان الحقيقة توحيدا”(7).
هنا يتضح بفضل بيان الغزالي الواضح أن التوحيد في استعمال الصوفية المراد منه؛ لاسيما وهو يتمثل بقول الحلاج القائل: “ما في الجبة إلا الله”، وقول البسطامي القائل: “أنا الحق”، و”سبحاني ما أعظم شأني”، أنه قول اعتقاده يعادل الكفر والإلحاد عند أهل الشريعة. لا تنسى قول ابن عجيبة المغربي في المقال السابق وهو يترضى عن الحلاج في قوله: “وبإظهار -يريد الحلاج- هذا ومثله قتل -رضي الله عنه-، فمن لطف الله تعالى ورحمته أن ستر ذلك السر بظهور نقائضه، صونا لذلك السر أن يظهر لغير أهله، ومن أفشاه لغير أهله قتل كما فعل بالحلاج”. وكذا قول ابن الفارض: “إنما قتل الحلاج لأنه باح بسره إذ شرط هذا التوحيد الكتم”. أي توحيد كتوحيد الحلاج.
ولعل في هذا كفاية للوصول إلى أن السر الذي أرغم الجنيد على إغلاق أبواب داره، ووضع مفاتيحها تحت وركه، وأكره الصوفية على التواصي بينهم بكتمه باعتباره عقيدة القوم وتوحيدهم الخاص بهم، هو عين مقالة الحلاج.
فلله در الإمام الأوزاعي في قوله: “إذا رأيت قوما يتناجون في دينهم بشيء دون العامة، فاعلم أنهم على تأسيس ضلالة”(8).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1) الطبقات الكبرى، المقدمة.
2) الطبقات الكبرى 1/14 و1/137.
3) الفتوحات المكية 4/104.
4) الطبقات الكبرى 1/101.
5) مشكاة الأنوار ص:14.
6) المصدر نفسه.
7) المصدر السابق ص:12-13.
8) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي ص:54.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *