إذا كان الاعتداء على الفطرة الإنسانية في بعدها الجسمي أمرا منهيا عنه على هذا النحو من التغليظ، فإن النهي عن الاعتداء على الفطرة النفسية هو أشد غلظة، وذلك لما يترتب عليه من الآثار الأكثر فداحة والأشد إخلالا بالمهمة التي خُلق الإنسان من أجلها، إذ هذه المهمة وهي عبادة الله والاستخلاف في الأرض تقوم أول ما تقوم على العنصر الروحي للإنسان، فإذا طُمست الفطرة فيه تعطلت المهمة بأكملها.
ومما جاء من نهي عن الاعتداء على الفطرة النفسية بالتغيير أو بالطمس الذي يشبه التغيير ما توارد مطردا في القرآن الكريم من نكير شديد على أولئك الذين خلق الله فطرتهم النفسية على استعداد للنظر في الآيات الكونية ليخلصوا منها إلى معرفة الحق، ولكنهم يهدرون ذلك الاستعداد بطمسه بالشهوات الغالبة، أو بالتعالي أو بالتكبر، أو بالتقليد الأعمى للآباء والأجداد، فينتهي أمرهم إلى ما يشبه الإلغاء لتلك الفطرة الممكَنة من معرفة الحق، فإذا هو الضلال الذي يكاد يسلخهم من صفتهم الإنسانية ليساويهم بالأنعام التي لم تُخلق على تلك الفطرة أو ليجعلهم أقل منها درجة، وأكثر منها ضلالا.
ومن ذلك ما جاء في قوله تعالى من المعتدين على الفطرة النفسية: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} الفرقان:44، وقوله تعالى: {إنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ} الأنفال:22، فهؤلاء إنما وقع التشنيع عليهم على هذا النحو لأنهم غيبوا فطرتهم التي خُلقوا عليها مستعدة للنظر والتأمل، وكأنما هم بذلك قد غيروا من تلك الفطرة بما جعلهم يشبهون الأنعام والدواب من حيث إنها ليست مخلوقة على هذه الفطرة الاستعدادية الممكَنة من الوصول إلى الحقيقة.
إن هذه الأحكام الشرعية على تعددها واختلاف مناحيها تلتقي كلها عند حكم المنع من الاعتداء على الفطرة الإنسانية جسما وروحا، وذلك بالسعي في تغييرها إما بالإزالة أو بالاستبدال أو بالتشويه، أو بالطمس والتغييب، وهو ما يقوم دليلا قاطعا على أن حفظ الفطرة مقصد شرعي كلي، ينتهي إلى المقصد الأعلى وهو حفظ إنسانية الإنسان، إذ الفطرة إحدى المكونات الأساسية لتلك الإنسانية. مقاصد الشريعة بأبعاد جديدة، د. عبد المجيد النجار، ص. 88-91.
فأي فعل أو سلوك يجري على خلاف الفطرة، فهو سلوك مذموم، يشهد على دناءة صاحبه وتخلفه عن طريق الرقي والسمو، لا عن تحرره و«تقدمه».
ربط الحرية بمآلاتها
المقصود بهذا الضابط، هو أن الحرية الفردية يجب أن تُقيد وتُضبط بالنظر إلى مآلها، أي إلى ما يترتب عنها من عواقب وآثار إيجابية أو سلبية، فتأخذ حكمها بحسبها إذنا ومنعا في حال دون حال؛ وشخص دون شخص، وإطلاقا أو تقييدا، وتعميما أو تخصيصا، وتوسيعا أو تضييقا؛ وإلا صارت فوضى عارمة يفوت بسببها خير كثير ويحل شر مقيم.
والنظر بعين العلم والبصيرة إلى المآلات، يُعد من القواعد الشرعية المهمة التي أكد عليها أولو العلم. قال الإمام الشاطبي رحمه الله: «النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعا كانت الأفعال موافقة أو مخالفة. وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل؛ فقد يكون مشروعا لمصلحة فيه تُستجلب، أو لمفسدة تُدرأ، ولكن له مآل على خلاف ما قصد فيه؛ وقد يكون غير مشروع لمفسدة تنشأ عنه أو مصلحة تندفع به، ولكن له مآل على خلاف ذلك. فإذا أُطلق القول في الأول بالمشروعية فربما أدى استجلاب المصلحة فيه إلى مفسدة تساوي المصلحة أو تزيد عليها، فيكون هذا مانعا من إطلاق القول بالمشروعية؛ وكذلك إذا أُطلق القول في الثاني بعدم المشروعية ربما أدى استدفاع المفسدة إلى مفسدة تساوي أو تزيد، فلا يصح إطلاق القول بعدم المشروعية…» الموافقات في أصول الشريعة 4/140ـ141.