وأنهـا فـرض على الـكـفـايــة فينبغي أن تقتفى درايـة
وحض جل وعلا على النظر في ملكوته وذاك معتبر
«وأنها» يعني تعلمها «فرض على الكفاية» إن تركها الناس كلهم ولم يتعلمها أي منهم أثموا جميعا. ومن تلك العلوم السحر، والطلسمات وغيرهما، البعيدة الغرض عن العمل، فما بالك بما قرب منه، كالحساب والهندسة وشبه ذلك، «فينبغي» بناء على ما ذكر من أن العلوم كلها فرض كفاية «أن تقتفى» أي أن تتبع وتطلب رواية و«دراية» أي فهما، فيروى منها ما يجب أن يروى، ويفهم منها ما حقه أن يفهم -أن يدرى-.
«و» يزيد توكيدا لما ذكر من أن جميع العلوم يجب أن تطلب وتدرى أنه سبحانه قد «حض» وحث «جل وعلا» في كتابه العزيز «على النظر» والتأمل «في ملكوته»، قال سبحانه وتعالى: {أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء…} «وذاك» دليل «معتبر» في هذا الشأن، وحجة على هذا الذي ذكر، إذ مقتضاه الأمر بالاشتغال بكل علم ظهر في الوجود من معقول، أو منقول، مكتسب أو موهوب؛ وفي القرآن آيات أخرى قاضية بهذا الحكم.
والعلم بالتفسير مطلوب وقد يكـون فيما لا لتكليـف ورد
لأنـنـا نـقــول لـيـس الأمـــر كذاك والمطلوب ذاك القدر
«و» يؤيد هذا أيضا أن «العلم بالتفسير» والتأويل للقرآن الكريم «مطلوب» الاطلاع عليه وتحصيله «وقد» يكون بعض ما يحصل منه ويعلم «فيما» أي في أمر خبري، كقصص الأنبياء، وأحوال الخلق، وذلك كله معد فيما «لا» أي ليس «لـ» أجل «تكليف» بعلمه والعمل بمقتضاه «ورد» في القرآن، إنما قد يكون واردا فيه لمقاصد أخرى.
وبعدما ساق الناظم هذه الحجج على أن العلوم كلها يجب أن تتعلم من غير فرق بينها، شرع في الرد عليها، قائلا: «لأننا نقول» يعني نجيب بأمور، أحدها: أنه «ليس الأمر» في هذا الشأن «كذاك» أي مثلما ذكرتم من أن تعلم العلوم كلها أمر مطلوب «و» إنما «المطلوب» في حقيقة الأمر هو «ذاك القدر» الذي تقدم أنه ما يكون تحته عمل.
وما أتى في ذاك من تنصيص محتمل التقييد والتخصيص
والفرض مما……………….. ……………………………
«و» ثانيها أن «ما أتى» أي جاء وورد «في ذاك» وهو الطلب «من تنصيص» على أن الشارع يدعو إليه فإنه إن كان اللفظ الدال عليه مطلقا فإنه «محتمل التقييد» وبذلك فإنه ليس على إطلاقه؛ «و» إن كان اللفظ الدال عليه عاما فإنه محتمل «التخصيص»؛ وبذلك فإنه ليس على عمومه.
بل الأدلة المتقدم ذكرها دالة على جريان التقييد والتخصيص في ذلك حقيقة، والذي يوضح ذلك أمران:
أحدهما: أن السلف الصالح من الصحابة لم يخوضوا في هذه الأشياء التي ليس تحتها عمل، مع أنهم كانوا أعلم بمعنى العلم المطلوب.
والثاني: ما ثبت في كتاب المقاصد أن هذه الشريعة أمية لأمة أمية؛ وبسط هذا يأتي هناك.
ثم ذكر ثالثها: وهو أنه من المفروض أن يكون العلم المذموم عند الناس هو العلم المذموم شرعا، فقال: «والفرض» الأمر المفروض المسلم «مما» يعني، فيما، فمن -هنا- بمعنى في، كقول الشاعر:
عسى سائل ذو حاجة أن منعته من اليوم سؤلا أن ييسر في غد
هذا هو ظاهر عبارته، فيكون المعنى -بناء على ذلك- والفرض فيما، والله أعلم.
…………… ذُم فـي الـعـلـوم الـعـلــم أنـه مــن الـمــذمــــوم
ورد كــل فــاســد مـمـنــــوع بمقتضى ما جاء في المشروع
وقصة الـرد لسحـر السـحـره بغـيـر مـا جـاؤوا بـه معتـبـره
«ذُم في العلوم» وعُدَّ فاسدا في كون الاشتغال به منهيا عنه وباطلا هو «العلم» الذي ثبت شرعا «أنه من المذموم» يعني أنه المذموم فمن مقحمة زائدة، وذلك جائز على مذهب الفراء وقد ثبت أنه لابد من علم فاسد، والشرع متكفل ببيان ما هو العلم الفاسد.
«و» رابعها: أن فرض الكفاية هو «رد» وإبطال «كل» علم «فاسد» شرعا «ممنوع» تعلمه وكل ذلك إنما يعلم ويثبت «بمقتضى» وحكم «ما جاء في المشروع» أي الشرع.
«وقصة الرد» والإبطال «لسحر السحرة بغير ما جاؤوا به معتبرة» في هذا الشأن، فإن موسى لم يعلم علم السحر الذي جاء به السحرة مع أنه بطل على يديه بأمر هو أقوى من السحر، وهو المعجزة، ولذلك لما سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاؤوا بسحر عظيم خاف موسى من ذلك، ولو كان عالما به لم يخف، كما لم يخف العالمون به، وهم السحرة»(*).
وقـد يكـون مثـل هـذا الحـكـم على يدي ولي أو ذي علم
ومـا يـدخـل فـي الاعـتـبـــار بـكـل مـا بــدا من الآثــار
«وقد يكون» أي يحصل «مثل هذا» الذي حصل على يد موسى عليه السلام «على يدي ولي» لله تعالى «أو» على يد «ذي علم» من علماء الشريعة، فلم يتعين -بناء على ذلك- معرفة تلك العلوم من جهة الشرع، لأنها باطلة وفاسدة، بل من فرض الكفاية ردها وإبطالها.
«وما» أي لا «يدخل في الاعتبار» عملا «بكل ما بدا» أي ظهر «من» الأخبار المذكورة و«الآثار» المنقولة عن السلف في هذا الشأن -و«من» في قوله «من الآثار» بيانية لـ«ما»-.
تتبع الأمر العسير في الطلب وكل ما لا عهد فيه للعــرب
فـإن ذا مـن عـادة الفـلاسـفــة وهي لسنـة الهـدى مخالفــة
«تتبعُ» اسم «ما» مؤخر، ويدخل السابق خبرها، مقدم، «الأمر العسير» أي الصعب إدراكه ومأخذه «في الطلب» يعني بالطلب وبالبحث عنه، «و» كذلك طلب وتعلم «كل ما» أي كل علم أو أمر «لا عهد فيه» أي به «للعرب» كعلوم الطبيعية، والأقيسة، والحدود المنطقية.
«فإن ذا» المنهج -وهو طلب حقيقة كل شيء وعلله، والبحث في أمره- يُعَد «من عادة الفلاسفة» وهم من يعبر عنهم بعض الناس بالحكماء؛ واتباع الفلاسفة في شأن مثل هذا أمر يجب أن يتقى، «و» ذلك لأن هذه العادة «هي لسنة الهدى» الحق والرشد «مخالفة» لما تقدم من أن كل علم ليس تحته عمل لا يسوغ الاشتغال به ولا طلبه، ثم إنها على خلاف نهج السلف الصالح في هذا الشأن.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
-(*) الموافقات، ج1/ ص36.
يتبع..