بزغ فجر «الجماعة الإسلامية» أوائل سبعينيات القرن المنصرم «1972م» على يد «صلاح هاشم» داخل ردهات جامعة أسيوط بمنطقة الصعيد المصري. وكان الرجل قبل تأسيسه للجماعة منضويا تحت أذرع الحقل الدعوي من خلال تحركه تحت مظلة جماعة «أنصار السنة المحمدية» و«الجمعية الشرعية» وجماعة «الدعوة والتبليغ».
قدم المؤسس «صلاح هاشم» أوراق اعتماد مشروعه في بداية الأمر تحت مسمى «الجماعة الدينية» في ظل مناخ حالك ومتشنج يغلب عليه طابع الصراع السياسي بين «أنوار السادات» ومختلف فصائل اليسار المصري من بقايا فلول «الرواسب الناصرية» وأتباع «الماركسية اللينينة» قبل أن يستقر الاسم على «الجماعة الإسلامية» تيمنا بالجماعة الإسلامية الأم بكل من الهند وباكستان.
عمد «صلاح هاشم» في رحلة الإرساء والتأسيس إلى استقطاب واحتواء نخبة من الطلاب المتميزين في مختلف الشعب قصد إشراكهم في عملية بناء قواعد الجماعة، وقد تأتى له بفضل فصاحته اللغوية الملفتة وخطابه الحماسي الدعوي المفعم بالآمال إقناع كوكبة من الأسماء الوازنة التي كان لها عظيم الأثر والتأثير على مشهد الحركة الإسلامية والساحة السياسية المصرية من الانضواء تحت لواء الجماعة الوليدة. من أمثال: «أبو العلا ماضي» و«عبد المنعم أبو الفتوح» و«كرم زهدي» و«عاصم عبد الماجد» و«أسامة حافظ» و«عصام الدين دربالة» و«ناجح إبراهيم» و«فؤاد الدواليبي» و«محمد شوقي الإسلامبولي» و«محمد إسماعيل المقدم» و«محمد عبده سليم».
كان للبيئة المحافظة التي نشأ في مناخها هؤلاء النخبويون ناهيك عن التعاليم السلفية التي استمدوها في ريعان شبابهم وهم يترددون على كتاتيب ومجالس جمعية «أنصار السنة المحمدية» و«الجمعية الشرعية» أثر عظيم في تشكيل مدونة الجماعة الإسلامية وإعلاء راية مضامينها العريضة التي شكلت حينها علامة فارقة في تاريخ «الحركات الإسلامية».. فعلى خلاف من سلف من الفصائل الإسلامية خلطت الجماعة الإسلامية أدبياتها وفق تصور استقائي سلفي النظر والاستدلال يقوم على النهل من مؤلفات «العقيدة الطحاوية» و«تفسير ابن كثير» و«معارج القبول» لحافظ الحكمي، و«نيل الأوطار» للشوكاني و«رياض الصالحين» وكتب شيخ الإسلام «ابن تيمية» و«ابن عبد الوهاب»، وبعد حركي يعتمد على تقريرات «سيد قطب» التي تتمرد على النظام الحاكم في مصر وتصمه بالجاهلية بالإضافة إلى كتاب «الفريضة الغائبة» لـ«عبد السلام فرج» وما اشتمل عليه الأخير من توصيات تحث على منابذة الطواغيت وإقامة شرع الله على أرضه بقوة السلاح.
نجحت الجماعة الإسلامية بتعاقب الأيام في استقطاب خامات وقامات علمية وقيادية كانت أياديها تصل الى تخصصات حساسة لا تخلو من الحنكة والعبقرية ..وقد كانت هذه الأوتاد النخبوية بمثابة حائط الصد الأول للجماعة الاسلامية.. فالأكتاف التي ثابرت على حمل الأمانة الثقيلة فيما بعد هي أكتافهم وسواعد الحرث هي سواعدهم.. وما مرحلة ارتفاع أسهم الجماعة في بورصة الاستقطاب إلا ثمرة مقطوفة سقيت بدماء وتضحيات الرعيل الأول.
في مستهل التأسيس رفض «صلاح هاشم» بشدة فكرة تسويق اسم الجماعة على شكل فصيل أو تنظيم وفضل الاقتصار على الاكتفاء بالتغلغل السري الناجع داخل أوساط تجمعات طلاب الجامعات المصرية تحت مظلة «الدعوة والأنشطة الثقافية والاجتماعية والخدمية الموجهة في معظمها إلى الطلاب وأسرهم المعوزة».
.يوما بعد يوم أخذ اسم الجماعة في الانتفاش والانتشار في ربوع مصر حتى أضحى صلاح هاشم ورفاقه حديث كل مجلس في الشارع المصري وبالتزامن مع بناء قواعد الجماعة بأسيوط لم يغفل «صلاح هاشم» عن ضرورة تأسيس أذرع فرعية بمختلف الجامعات المصرية الأخرى. وسرعان ما أوكل مهمة الدعاية والاستقطاب في جامعة القاهرة لـ«عبد المنعم أبو الفتوح» وفي جامعة الإسكندرية لـ«ابراهيم الزعفراني» وفي جامعة الأزهر لـ«أسامة عبد العظيم» وفي جامعة طنطا لـ«أنوار شحاتة» وفي جامعة المنيا لـ«محيي الدين عيسى».
أبريل عام ( 1974م) قامت الجماعة الإسلامية بخطوات اصلاحية ذات صبغة خطابية متوعدة بقوة اليد داخل أروقة الجامعات المصرية، وسرعان ما تم تعميمها على مختلف التجمعات الطلابية والنوادي الشبابية ..التغير اللافت في خطاب الجماعة فاجأ الجميع ودفع بهم إلى التساؤل عن خلفية ودوافع (الفصيل الوليد) ومكمن السر في استقطابه الشبابي المهول الذي أزاح من خلاله عن طريقه عقبات تيارات فكرية وتنظيمية عريقة كان لها قصب السبق في الاستحواذ الشبابي واحتواء القواعد الطلابية.
تعاظم نفوذ «الجماعة الإسلامية الطلابية» يوما بعد يوم وقويت شوكتها وتكاثر أنصارها رويدا رويدا حتى تقدمت الخطى نحو السعي إلى تغيير المنكر في أروقة الجامعات والمدن الجامعية عبر سلسلة من الصدامات الدامية مع الطلاب الأقباط، وفتح جبهات للمناوشات اليدوية والملاسنات الشفهية معهم كانت تهدف في معظمها إلى المناداة بفصل الطلبة عن الطالبات في المدرجات وقاعات المحاضرات، وحظر اختلاطهم حتى في الأماكن العامة، والتصدي لحفلات الرقص الموسيقية ومنع عرض الأفلام السينمائية داخل الجامعة.
وقد ألهبت الخطب التي كان يداوم على إلقائها في مساجد المدن المصرية وزوايا جامعاتها كل من «كرم زهدي» و«ناجح ابراهيم» و«أسامة عبد العظيم» و«فؤاد الدواليبي» حماسة الطلاب والتف بالتالي حولهم معظم الشباب المثقف الثائر وتأثر بهم رصيد شبابي هائل فطم على إيقاع نكسات الهزائم المزرية ضد الصهاينة.
إلى أن تطور الأمر في خضم هذا التدافع إلى طبع منشورات تتصدى للقساوسة وتهاجم أرباب الكنائس وتعري سوءات حكم العسكر بالبلاد. فضلا عن تنظيم معسكرات إسلامية في العطلات والإجازات الموسمية التي كان يحاضر فيها نخبة من الدعاة والعلماء.
ويمكن اعتبار هذه الأحداث بمثابة فاصل جوهري حاسم أسهم بكل تجلياته المؤثرة في إحداث تحول عميق في أدبيات الجماعة. وتتمثل الغرابة أساسا بانفراد الجماعة الملحوظ في أول أمرها بطابعها التأسيسي الدعوي السري الذي تطور فيما بعد إلى خط جهادي عرمرم، عرفت تفاصيل نشأته وأهدافه على لسان القاصي والداني خلافا للحركات الاسلامية الأخرى التي أسبغت كفاحها بلون السرية والجهادية منذ التأسيس.
لجأ قادة الجماعة الإسلامية آنذاك بغية خلق نوع من الاستمرارية لأنشطة جماعتهم إلى طرق مختلف الأبواب قصد التمويل والتجهيز.. مثل إقامة أسواق خيرية لبيع السلع وبيع الكتب الدراسية والدينية وبيع الزي الإسلامي للطالبات؛ قبل أن تتطور الحاجة من التمويل إلى تبني فتاوى استحلال أموال النصارى المحاربين، فكانت بالتالي أولى العمليات القتالية للتنظيم هي الاستيلاء على المشغولات الذهبية ببعض محلات بيع الذهب التي يملكها الأقباط بمدينة نجع حمادي في صعيد مصر والاستيلاء أيضا على إيراداتها المالية.
مشاركة الجماعة الإسلامية في تصفية السادات
عارضت الجماعة الإسلامية زيارة «أنوار السادات» الشهيرة للقدس المحتلة وتوقيعه لاتفاقية كامب ديفد برفقة «مناحيم بيغن» الصهيوني قبل أن تتضاعف شرارة الاحتقان حد الانفجار بسبب الزيارة التي قام بها «شاه ايران» إلى مصر بدعوة من السادات المغضوب عليه والذي كان يومها محسوبا على الكفر الأكبر قياسا على أدبيات الجماعة بسبب حكمه بغير ما أنزل الله ودعوته إلى فصل الدين عن السياسة، وهي الجناية التي تعد تجريدا فجا صريحا للإسلام من روحه ليتحول إلى صورة باهتة لا حياة فيها.
بحلول أواخر السبعينات طورت الجماعة معارضتها لنظام السادات وتحالفت مع تنظيم الجهاد للإطاحة بالنظام في فترة بلغ فيها الاحتقان السياسي في مصر ذروته بإصدار أنوار السادات عام 1981 أوامره باعتقال 1536 شخصية من جميع ألوان الطيف السياسي المعارض بمصر بما فيها الحركات الإسلامية، وإصداره قرارات التحفظ والقبض على العديد من قيادات الجماعة الاسلامية.
وقد شهد المعترك التصادمي بين الدولة وجماعات الجهاد مجموعة من الوقائع التي ساهمت في بلورة تكتل فكري وتخطيطي بين بعض المجموعات التي سبق ذكرها «انظر الجزء الثاني».. نتج عن هذا التشكيل تفاهم متبادل على خطوط عريضة ترجمت فعليا على أرض الواقع من خلال وضع لمسات التخطيط الأولى لحادث المنصة التي شهدت مقتل أنوار السادات.
واجتمع لأجل الإحاطة بحيثيات الموضوع والاتفاق على مسودة ختام الخطة قادة بارزون من وزن الرعيل الأول مثل (كرم زهدي..عبد السلام فرج) على طاولة تفاهم واحدة تمخض عنها تخطيط في بالغ السرية والدقة يهدف إلى اقتحام منشات عسكرية حساسة وقلب الأوضاع القائمة في البلاد.
وقد حضر الاجتماع بالإضافة الى القائدين كل من «عبد الحميد عبد السلام» و«عبود الزمر» و«صلاح السيد البيومي» و«ناجح ابراهيم» و«عمر عبد الرحمان» و«هاني الحناوي» و«عاصم عبد الماجد» و«أحمد شوقي الإسلامبولي».. قبل أن ينفض الجمع على وقع اتفاق تشكيل (تيار جهادي مشترك) يتولى عملية اغتيال السادات ومن ثم الهجوم على منشات حساسة للدولة بعدد من المدن المصرية.
1- أبو العلا ماضي.. «يشغل حاليا رئاسة حزب الوسط المصري. وقد تم القاء القبض عليه عقب الانقلاب الدموي في مصر وهو قابع في سجن العقرب منذ ذلك التاريخ.
2- كرم زهدي، عراب مراجعات الجماعة الإسلامية الشهيرة أواخر تسعينيات القرن المنصرم.
3- عصام الدين دربالة، آخر أمراء الجماعة الإسلامية، توفي قبل شهر فقط نتيجة إهمال طبي لحقه في سجن العقرب.
4- محمد إسماعيل المقدم، الوجه السلفي البارز ومؤسس الدعوة السلفية الإسكندرانية.
5- أسامة عبد العظيم، يعد حاليا أشهر رمز سلفي مصري يدعو الى الانكباب على إصلاح أعمال القلوب وتزكيتها والابتعاد عن الخوض في السياسة، وقد كان لتوجهه المنهجي الجديد عظيم الأثر في صياغة شخصية تلميذه «محمد حسين يعقوب».
6- قاد معظم تلك العمليات «علي الشريف» حيث جرى اقتحام محلين للذهب ذات يوم جمعة من عام 1980 وبعد قتل من قتل، ونجاة من نجا، كانت أول غنيمة غنمتها الجماعة 4000 جنيه مصري وخمسة كيلوات ونصف من الذهب. وهديا على نجاحها قاد نبيل المغربي بعد ذلك عملية مماثلة في اقتحام محل ذهب لمالك قبطي في منطقة شبرا الخيمة بالقليوبية.