الاستصنام في نقد الاستصنام! (خواطر في نقد كتاب: “الأخطاء الستة ..” للدكتور الأنصاري) عبد الكريم الداودي

إن هذه السطور لا تعد انتصارا لحزب أو حمية لأشخاص؛ بقدر ما هي دفاع عن منهاج معصوم واجب الاتباع، كان الأولى بالمؤلف أن يقرره بأدلته، ويرشد الدعاة إلى تصحيح خطئهم في هذا الموضوع الهام: المنهاج الصحيح لفهم الإسلام والعمل به، والدعوة إليه، بَدَل أن ينهال عليهم بوابلٍ من الهمز واللمز، لا يهدي ضالا ولا يشجع مهديا.

وابلٍ لا يفرق بين من كان صادرا عن أصول صحيحة، ومن كان متمرغا في أوحال الحزبية بكل مساوئها!
الأصل الأصيل
إن مصادر التلقي وضوابط الاستنباط في ديننا الحنيف أوسع بكثير من أن تحصر في مذهب عالم واحد بأصوله وفروعه؛ إنها قرآنٌ كريم وسنةٌ شريفة وأصولُ وطريقةُ سلفٍ صالح؛ قال القرآن فيهم: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}(التوبة 100).
وقالت السنة فيهم: “خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم ..” [متفق عليه].
والواجب أن يأخذ أهل كل بلد؛ من عُرف بلدهم ما يتوافق مع ذلكم الأصل، ويردون ما يتنافى معه؛ عملا بقول إمامنا مالك رحمه الله: «ليس من أحد إلا ويؤخذ من قوله ويترك إلا النبي صلى الله عليه وسلم».(1)

وقوله: “إنما أنا بشر أخطئ وأصيب فانظروا في رأيي فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه” (2)
فالمذهب المالكي حقيقة لا يخرج عن ذلكم الواجب ولا يخالفه، والمذهب المالكي اصطلاحا فيه الصواب والخطأ؛ فيُؤخذ منه ويترك، وهذا امثتال لأمر مالك، وعليه صار كبار المالكية؛ كالعلامة أشهب بن عبد العزيز رحمه الله:
ومن ذلك؛ أنه جلس يوما بمكة إلى ابن القاسم فسأله رجل عن مسألة، فتكلم فيها عبد الرحمن، فصعّر له أشهب وجهه، وقال: ليس هو كذلك، ثم أخذ يفسرها ويحتج فيها، فقال له ابن القاسم: الشيخ (أي مالك) يقوله عافاك الله، فقال أشهب: ولو قاله ستين مرة، فلم يراده ابن القاسم.
الخلل الجلي والكيل بمكيالين
لقد وقع (صاحب الأخطاء) في خلل منهجي؛ حين أعرض عن بيان الحقيقة المتقدمة -وإن أشار إليها في سياق مضاد-، مع أن مخالفتها هي أعظم الأخطاء التي وقعت فيها الجماعات الدعوية المنتقدة.
أجل؛ لقد انهال على كل العاملين في الحقل الدعوي على اختلاف مشاربهم ومناهجهم، بوابل من النقد، يتخلله غير قليل من عبارات اللمز والنبز والتنقيص، ولم يسلم من هذا السيل الجارف سوى من يعمل تابعا لوزارة الأوقاف، التي أخرجها من محيط نقده، ومعاول نقضه، وكأنها عِرْوٌ من الأخطاء، سالمة من المؤاخذات.
والعدل مأمور به في الحكم على الناس؛ قال الله تعالى: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}(المائدة 42).
وماذا لو رماه أحد بالتزلفِ لأرباب راتبه واستصنامِ مناهجهم في التدبير الديني، كما رمى غيره بالتزلف لأصحاب (البترو-دولار)، إلى درجة استصنام مذاهبهم!
ظلم وافتراء
ولقد وصل به الظلم والإجحاف؛ إلى حد أن جعل الذين يدعون إلى تبني المنهج الحق في الفهم والعمل؛ أشد الدعاة انحرافا، وجعل عقاربهم أشد خضرة من عقارب غيرهم!
ومن ظلمه لهم؛ زعمه أنهم لا يهتمون بمذهب الإمام مالك، وأنهم استبدلوا به المذهب الحنبلي، بل واستصنموا هذا الأخير! وبنى على ذلك دعوته لهم إلى إصلاحٍ يستفيد من تراث المالكية المعروفين بالسير على خطى الإمام مالك في المعتقد ومنهج الفهم!

السلفيون والعناية بعلم الإمام مالك؛ في غير غلو ولا استصنام
والحق؛ أن السلفيين -في المغرب وغيره- أكثر الناس عناية بعلم الإمام مالك، -وعلمه هو أساس مذهبه-، ويستفيدون من علم المالكية، ويتعاملون مع اجتهاداتهم في التأصيل والفتوى على ضوء: “كل يؤخذ من قوله ويترك …”.
وإنما ينتقدون الغلو في المذهب، وجعله أصلا مطلقا للفهم والاستنباط، والتعصب لذلك:
.. ألم يأتك يا دكتور نبأ كتاب: فتح البر في الترتيب الفقهي لتمهيد ابن عبد البر، وكتاب: فتح المجيد في تخريج أحاديث التمهيد، وكتاب: بغية المستفيد فيما زاده الاستذكار على التمهيد، وكتاب: مواقف الإمام مالك؛ أربعتها لسماحة شيخنا الدكتور محمد المغراوي.
وهل اطلعت على كتاب: الموطأ بالروايات الثمانية للشيخ المحقق سليم الهلالي، وكتاب: عقيدة الإمام مالك للأستاذ مصطفى باحو.
وقد شرح غير واحد من إخواننا مقدمة العلامة ابن أبى زيد القيرواني؛ منهم الأستاذ الموقر: محمد زغير؛ وفق الله الجميع، ولعبد ربه مصنف بعنوان: إتحاف الزمرة بسيرة إمام دار الهجرة، واللائحة تطول..
فإن كنت عالما بهذا وأمثاله؛ فقد بخست الناس حقهم، وإن كنت جاهلا؛ فكيف تحكم عليهم والحالة هذه؟!
بين سلفية الهلالي وسلفية من بعده
ومن عجيب ما صدر من (صاحب الأخطاء): ثناؤه على سلفية الدكتور تقي الدين الهلالي، وإنكاره سلفية من جاء بعده؛ مع أن الدكتور كان أشد اتصافا بما عابه على من بعده:
ومن ذلك؛ أنه كان من أشد المنتقدين للتعصب المذهبي، وللتصوف بكل أشكاله.
وعُرف بـ: القول بكفر تارك الصلاة، وإنكاره قراءة الحزب، والدعاء جماعة بعد المكتوبات، وقوله ببدعية قنوت الفجر… (انظر كتبه: مفتاح التفقه الأصيل ص:28 و66، ودليل الصراط المستقيم ص:98، وحكم تارك الصلاة)، وكان على صداقة مع علماء الحجاز، وكان يفتي بكثير من فتاواهم، ويأخذ ببعض أصولهم.
وألَّف في التوحيد مؤلفات، منها: موسوعة ضخمة شرح بعضها في دروس، وأبدى في الموضوع وأعاد، مما عده (صاحب الأخطاء) مِنْ غيره: (غلوا في التحقيقات العقدية)!
وألّف في الإنكار على جماعة التبليغ كتاب: (السراج المنير في تنبيه جماعة التبليغ على أخطائهم)…
ومع ذلك يعُدُّه (صاحب الأخطاء) من السلفيين المرضيين الذين كانوا على صراط مستقيم، ويعُدّ مَن بعده عقارب خضراء؛ لأنهم ينتقدون التعصب المذهبي والتصوف بكل أشكاله، وينكرون قراءة الحزب، ويفتون ببعض فتاوى الحنابلة، ويوافقون بعض أصول المذهب الحنبلي ..!
وهنا نقول: إن المذهب الحنبلي كغيره من مذاهب العلماء؛ يؤخذ منه ويترك، فما ذنب السلفيين إن قالوا بحكم أو قاعدة متحرين الدليل، فوافق ذلك فتوى أو قاعدة حنبلية، وهل من الصواب وصف هذا بالاستصنام، ولو جاز؛ فَلِمَ يُبَرّأ منه العلامة تقي الدين ويوصم به غيره؟!!
بين المنهج والمنتسبين إليه
ثم أقول: إن السلفيين ليسوا معصومين من الخطأ، وليسوا بمعزل عن النقد؛ لكن يجب أن يكون ذلك مع مراعاة:
– ضرورة التفريق بين المنهاج وبين المنتمين إليه.
– أن يبنى النقد على العدل والإنصاف.
– أن يحلى بالرفق والحلم؛ والسلفيون أولى الناس بذلك؛ لصحة أصولهم المنهجية والدعوية؛ وذلك يسهل أمر رجوعِ مَن أخطأَ منهم إلى الصواب.
وهذا كله غاب في نقد (صاحب الأخطاء)!
الاستصنام في نقد الاستصنام
وإذا كان يقصد بالاستصنام؛ التعلق الشديد بالشيء بصوابه وخطئه، أفلا يعد كلامه في: المذهب الأشعري، والتصوف (السني)!، والمذهب المالكي من الاستصنام؟!
أليس من استصنامه للمذهب الأشعري؛ دفاعه عن العقيدة الأشعرية بلف ودوران عجيبين؛ لا يسمح المقام بشرحهما، وإنكاره على السلفيين بيان ما فيها من أخطاء.
التصوف السني
أليس من استصنامه للتصوف (السني)؛ محاولة إثبات مشروعيته، منهجا للتزكية والتربية؛ مع أنه لا موجب لهذا الطواف الطويل: (التصوف السني)؛ إذ بدل الاجتهاد في تنقية التصوف من الدخيل، نجتهد في تربية الناس مباشرة على الهدي النبوي في تزكية النفس وإصلاح القلب، المستقى من القرآن والسنة الصحيحة على طريقة السلف.
ويسعنا في ذلك ما وسع الصحابة والتابعين وتابعيهم والأئمة والعلماء، وما كانوا يربون عليه الناس.
والتصوف شره أكثر من خيره، فكيف نسعى لتصفية الكثير من القليل؟!
وسد الذرائع من أصول الإمام مالك؟! ومن سدها في هذا الباب: منع الترويج للتصوف؛ حتى لا يختلط المحمود منه -وهو الأقل- بالمذموم -وهو الأكثر-؟!
فإن قيل: هذا اصطلاح، ولا مشاحة في الاصطلاح؛ قلت: هذا إذا لم يؤد إلى التباس حق بباطل، فإذا أدى إلى ذلك؛ كان إعمالُ قاعدة سد الذرائع هو المتعين.
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُوا} (البقرة 104).
…أما بعد؛ فتلك خواطر جالت في القلب، الذي انقبض كثيرا مما كتبه الدكتور الأنصاري، أحببت بثها في هذه المقالة، في انتظار نقدٍ متكامل، يتفسح في كتاب مستقل، ويكشف زلاّت (صاحب الأخطاء)، هدانا الله وإياه، ووفقنا للمنهج القويم والصراط المستقيم في الأخذ بهذا الدين والدعوة إليه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1]- السير للحافظ الذهبي(8/93) وانظر: التعظيم والمنة ص.(36-38) والموافقات (5/134).

[2]   رواه ابن عبد البر في بيان جامع العلم وفضله (2/32)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *