من عرف ربه سبحانه وتعالى بالرحمة الواسعة لابد أن يحصل له عدد من الخيرات والثمرات والآثـار.. فإنه على قدر حظ الإنسان من هذا الخلق الكريم ترتفع درجته عند الله؛ ولهذا كان الأنبياء عليهم السلام أرحم الناس، وكان خاتمهم وسيدهم محمد صلى الله عليه وسلم أوفرهم نصيباً من هذا الخلق حتى كانت رسالته رحمة للعالمين قال الله سبحانه: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)، (فبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ الله لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ). وقد لازم هذا الخلق في أشد الأوقات، فلما آذاه أهل مكة وكذبوه وأخرجه أهل الطائف ورموه بالحجارة؛ خرج كسير النفس، مجروح الفؤاد يتلمس الفرج، جاءه ملك الجبال وعرض عليه إهلاكهم فقال صلى الله عليه وسلم: (بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا). رواه مسلم.
رحمة لم تعرف البشرية نظيراً لها. والمؤمن الصادق له نصيب من هذه الصفة على قدر حبه لنبيه صلى الله عليه وسلم وإتباعه له وأولى الناس بالرحمة الوالدان خاصة عند الكبر: (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً)، ثم ضعفاء المسلمين أيتاماً وأرامل، فرحمة هؤلاء باب من أوسع الأبواب التي تنال بها رحمة الله. وإذا كانت امرأة بغي دخلت الجنة في كلب سقته شربة ماء؛ فكيف بالإنسان المؤمن الكريم على الله.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: (غفر لامرأة مومسة مرت بكلب على رأس ركي يلهث قال كاد يقتله العطش فنزعت خفها فأوثقته بخمارها فنزعت له من الماء فغفر لها بذلك).
لقد كان صلى الله عليه وسلم رحيم القلب يرق للضعفاء ويرحم حتى الدواب والحيوانات ويوصي بها، فقد جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله: (إني لأرحم الشاة أن أذبحها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن رحمتها رحمك الله). صحيح الترغيب والترهيب.
وليعلم أن الرحمة تفتح أبواب الرجاء والأمل، وتثير مكنون الفطرة، وتبعث على صالح العمل، وتغلق أبواب الخوف واليأس، وتشعر المؤمن بالأمن والأمان؛ لأنه سبحانه الرحيم الذي سبقت رحمته غضبه، ولم يجعل في الدنيا إلا جزء يسيراً من واسع رحمته يتراحم به الناس ويتعاطفون، وبه ترفع الدابة حافرها عن ولدها رحمة وخشية أن تصيبه.
عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (جَعَلَ الله الرَّحْمَةَ مِائَةَ جُزْءٍ، فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ جُزْءًا وَأَنْزَلَ فِي الأَرْضِ جُزْءًا وَاحِدًا، فَمِنْ ذَلِكَ الْجُزْءِ يَتَرَاحَمُ الْخَلْقُ حَتَّى تَرْفَعَ الْفَرَسُ حَافِرَهَا عَنْ وَلَدِهَا خَشْيَةَ أَنْ تُصِيبَهُ) رواه البخاري.
ومن آثارها: الرحمة بالمخطئين والمذنبين بالأخذ بأيديهم إلى طريق الله بالموعظة الحسنة باللطف لا بالعنف والتعامل معهم على أنهم غرقى محتاجون من ينتشلهم فلا يتركهم يتعرضون لعذاب الله. ومن ثَّمّ النظر إليهم بعين الرحمة لا الشدة والنقمة، ومعاملتهم معاملة الرُحماء لا معاملة أهل الكبر والازدراء والخيلاء.
ومنها: أن المؤمن مع تقربه إلى الله بكل عمل، وتوقيه لكل ذنب إلا أن قلبه خائف وجل من الآخرة، متطلع إلى رحمة ربه وفضله. فهو على كل أحواله متطلع إلى رحمة الله وفضله، مع مراقبته لله هذه المراقبة الواجفة الخاشعة. (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ).
ومنها: أن ينقطع المؤمن إلى الله تعالى وأن يعرض عما سواه عز وجل فيرتاح باله؛ فإن الرحمة بيد الله وحده فـ (ما يفتح اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ). وحين تستقر هذه العقيدة في قلب إنسان تتحول تصرفاته وتعتدل موازينه؛ لأنها تقطعه عن كل قوة في السماوات والأرض وتصله بقوة الله. وتغنيه عن كل رحمة في السماوات والأرض وتصله برحمة الله. وتوصد أمامه كل باب في السماوات والأرض، وتفتح أمامه باب الله.
يجد هذه الرحمة من يفتحها الله له في كل شيء، وفي كل حال، وفي كل مكان.. يجدها في نفسه، ويجدها فيما حوله، حيثما كان، وكيفما كان، ولو فقد كل شيء مما يعد الناس فقده هو الحرمان.. ويفتقدها من يمسكها الله عنه في كل شيء، وفي كل وضع، وفي كل مكان، ولو وجد كل شيء مما يعده الناس علامة الوجدان والرضوان!
وما من نعمة -يمسك الله معها رحمته- حتى تنقلب هي بذاتها نقمة. وما من محنة -تحفها رحمة الله- حتى تكون هي بذاتها نعمة.. ينام الإنسان على الشوك -مع رحمة الله- فإذا هو مهاد. وينام على الحرير -وقد أمسكت عنه- فإذا هو شوك القتاد.
ويهب الله الصحة والقوة -مع رحمته- فإذا هي نعمة وحياة طيبة؛ والتذاذ بالحياة. ويمسك نعمته فإذا الصحة والقوة بلاء يسلطه الله على الصحيح القوي؛ فينفق الصحة والقوة فيما يحطم الجسم ويفسد الروح؛ ويدخر السوء ليوم الحساب!
ورحمة الله لا تعز على طالب في أي مكان ولا في أي حال.
ومنها: أن المؤمن إذا علم أن الله إذا فتح أبواب رحمته لأحد فلا ممسك لها. ومتى أمسكها فلا مرسل لها. كانت مخافته من الله. ورجاءه في الله.. إنما هي مشيئة الله. ما يفتح الله فلا ممسك. وما يمسك الله فلا مرسل.. يقدر بلا معقب على الإرسال والإمساك. ويرسل ويمسك وفق حكمة تكمن وراء الإرسال والإمساك. (ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده).
لو استقر هذا المعنى في قلب إنسان لصمد كالطود للأحداث والأشخاص والقوى والقيم. ولو تضافر عليها الإنس والجن وهم لا يفتحون رحمة الله حين يمسكها؛ ولا يمسكونها حين يفتحها.. (وهو العزيز الحكيم)..
اللهم لك الحمد منزل القرآن هداية وزكاة وشفاء ورحمة للمؤمنين…«لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمةً، إنك أنت الوهاب»، رحمتك نرجو، فلا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين.