إن فلاح الأمم والشعوب رهين بصلاح أعمالها، وصلاح الأعمال متوقف على صحة مصادر التلقي عندها، وشرط ذلك أن يكون المتصدرون للتعليم أمناء فيما يروون أو يصنفون، فمن تحدث في العلم بغير أمانة فقد مس العلم بقرحة وحجر الأمة عن الفلاح، وقديما قيل: “من رام الوصول لزم الأصول”، لكننا في زمن تنكر فيه أهله لكل أصيل، وتطلعت أنفسهم إلى كل دخيل، زمن قلَّ فيه العلماء وكثر أشباههم، وتعالى فيه الأدعياء مغترين بوفرة أتباعهم، حتى غدا الرجل التافه يتكلم في أمر العامة، وأضحت مسائل العلم وأحكام الشرع كالكلأ ترتع فيه كل سائمة، وضجت أصوات الأغمار مَن ذا الذي لم يعد يفهم الدين أصولاً وفروعاً في هذا الزمان؟! وغرّهم في دينهم انتشار الفضائيات وفشُوُّ الجرائد والمجلات!! فتنادوا قائلين: لماذا الكبت على الحريات، وتكميم الأفواه عن الكلام في الشرعيات؟! لماذا التسلط على عقول الآخرين والحجر على الأفهام؟! وهل هذه إلا رهبنة، ولا رهبانية في الإسلام؟.. ولسان الحال يقول: ليست البلية في أيامنا عجب، بل السلامة فيها أعجب العجب.
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول: “إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبْقِ عالماً، اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا” متفق عليه.
وفي الأثر عن ابن مسعود رضي الله عنه: “لا يأتي عليكم عام إلا وهو شر من الذي كان قبله، أما إني لست أعني عاماً أخصب من عام، ولا أميراً خيراً من أمير، ولكن علماؤكم وخياركم يذهبون، ثم لا تجدون منهم خلفاً، ويجيء قوم يقيسون الأمور بآرائهم، فيُهدَم الإسلام ويثلم”، رواه الدارمي بسند حسن.
والنصوص في هذا المعنى كثيرة يطول المقام بسردها، فقد استفاض ذم الفتيا بغير علم والنهي عن سؤال غير العلماء، والتنفير من الاستماع للجهال وأنصاف المتعلمين، كل ذلك صيانة للإسلام ونصحاً لعباد الله المؤمنين، وردعا لأولئك المفترين على الله الكذب، المتسلطين على تراث الأمة، الذين يتقحمون الفتيا بدعوى الاجتهاد وليس لهم من غرض إلا التجني على النصوص الشرعية لا للجني منها، وهم إذا تناولوا مسائل الشرع بالبحث والنظر، تناولوها بروح المنهزم المتترس بضغط الواقع، المنبهر بفُتات الحضارة الغربية، فيجعلون ذلك جزءاً من أصول فقههم، ومراعاته مقصدا من مقاصد شرعهم !
تلك إذن ثلاث عورات لهم: “اجتهاد” لا محدود، و”مصلحة” بلا حدود، و”انهزام” أمام الواقع المنكود، ولعل احتمال ظهور أمثال هؤلاء في آخر الزمان هو الحامل لبعض من مضى من أهل العلم على القول بإقفال باب الاجتهاد، خوفاً من أن يخوض في هذا الأمر من ليس له بأهل فيعبث بالديانة، خاصة عند فشو الكذب وذهاب الأمانة، فلله دَرُّهُم ما أبعد نظرهم مع أن الصواب لم يحالفهم، فالاجتهاد أمر مطلوب لسد حاجات الأمة، ولا مفر من الإقرار به والأخذ بأسبابه لمن توفرت فيه شروطه، لكن لابد لمن يخوض غياهبه من أن ينضبط بضوابطه، ولابد في الاجتهاد نفسه أن يقيد بالقيود الشرعية، وإلا أصبح مطية لكل مارق ومعاند، وقد عرَّف أهل العلم الاجتهاد بأنه: “حركة عقلية في أحكام الدين المشروعة لمصالح الأمة”، وإذن فهو ليس مجرد حركة عقلية تتجه مباشرة إلى المصالح. والقول بغير ذلك يؤدي إلى تلاعب التافهين بكلام رب العالمين وسنة سيد المرسلين، وحينئذ فلن يبق ثمة اجتهاد وإنما هو اجتثاث وإجهاض، ينتج عنه ورم من الفتاوى الممسوخة تشوه جمالية الدين وتكدر صفاء نبعه عياذاً بالله.
وبالجملة فإن معرفة الأحكام الشرعية تحتاج إلى تصويب النظر تجاه الأدلة الشرعية، والتأمل فيها، والاستنباط منها، والصدور عنها، مع مراعاة الشروط الواجب توفرها فيمن يستنبط تلك الأحكام (أي المجتهد) إذ ليس كل مسلم مؤهل لذلك. أما شروطه فمثلها كمثل الجناحين للطائر الذي لا يستطيع أن يقوم إلا بهما معا وإلا فلن يقوى على الطيران.
فالجناح الأول: هو ملكة الاستنباط، وهي قدرة عقلية لا تتوفر لكل إنسان. أما الجناح الثاني: فهو الأدوات التي يجب أن تتوفر في المستنبط، مثل القواعد الأصولية واللغوية وغيرها من القواعد اللازمة للمستنبط التي قررها أهل العلم وأصلوها وجعلوها أسساً لبيان الصواب من الخطأ، والراجح من المرجوح.
ومما ينبغي مراعاته لمن عُنِي بذلك أثناء سيره في طريق الاستنباط وطلب الحق أن ينظر في كلام العلماء الأعلام من محدِّثين ومفسِّرين وفقهاء وغيرهم، يستعين بهم على فتح مغاليق الفهم، ومضايق النظر، وعويصات المسائل، ويستلهم تقريب المعاني وحل المعضلات، وبيان المشكلات، واضعا نصب عينيه في نهاية المطاف الظفَر بالحق فيما يغلب على ظنه وإصابة الحكم الشرعي الصحيح الذي يرضي الله تعالى، فاستنباط الحكم الشرعي من الدليل الشرعي بالطريقة الشرعية هو الجادة الأثرية، والطريقة السلفية السوية، التي تناقلها الخلف عن السلف، فدوَّنوها في الأمهات، وأدالوها في منتديات العلم والحلقات، لينشأ عليها طالب العلم في أول مشواره، وتستقر في ذهنه منذ نعومة أظفاره، إذ لا ينال العلم من لم يسلك سبيل العلماء.