لا يزال أهل الإفك في كل زمان ومكان، ممن انحرفوا عن الإسلام أصولا وفروعا، يسعون إلى نقض عرى هذا الدين المتين، تارة باسم الموضوعية، وثانية باسم البحث العلمي، وأخرى باسم التجرد للحق، وهم في حقيقة الأمر ليسوا بموضوعيين ولا علميين ولا متجردين، فتجد الواحد منهم إذا كان ممن صرح بإلحاده وكفره بجميع الأنبياء والرسل، يقدم كل شرائع السماء والأرض على شريعة الإسلام الخالدة، مدعيا أنه ما صرح بذلك إلا عن علم ومعرفة ودراسة استمرت عشرات السنين!!
فهو أعلم بالقرآن من أهل القرآن، وبالسنة من أهل السنة!! وأعلم بالإسلام من المسلمين أنفسهم. وأما إذا كان هذا المخالف من أهل الملة والدين ممن انتحلوا نحلة بدعية على غير هدي النبي الأمين صلى الله عليه وسلم، فإنك تجده يمدح جميع الفرق والمذاهب المنحرفة عن طريقة أهل السنة والجماعة، لأن هذه الأخيرة عند هذا الصنف مناقضة للفطرة، ومخالفة لمقاصد الشريعة، ومنافية لمقتضيات ومتطلبات العصر الحديث!!
وهذان الصنفان المذكوران خطرهما ظاهر، وشرهما يعرفه كل صغير وكبير، لكن المصيبة كل المصيبة، والحذر كل الحذر من صنف ثالث لا تعرف له لونا ولا رائحة، مثلهم كمثل الحنظلة منظرها جميل وطعمها مرّ، وهذا النوع يلبس أصحابه عباءة أهل العلم، ويتزينون بزينة أهل الصلاح، وينتسبون إلى مذهب أهل السنة والجماعة، ويدعون أنهم يدفعون عن الإسلام شبهات أعدائه من نصارى وملحدين وغيرهم، وهم في واقع الأمر ليسوا إلا معاول هدم تحاول عبثا خدش هذا الصرح العظيم، وما أخال صاحبنا إلا من هذا الصنف والله أعلم بما في الصدور.
ذلك أنه يحاول عبثا تشويه رموز أهل السنة في كل عصر ومصر، ورغم أن الإمامان الجليلان البخاري ومسلم ممن اتفقت كلمة المسلمين على إمامتهما وعدالتهما، فقد جاء مجدد القرن ليكتشف أنهما مقلدان ما وضعا صحيحيهما إلا نصرة للمذهبين الذين ينتسبان إليهما!! بل إن البخاري على جلالة قدره يتستر على الروايات التي لا تخدم رأيه كما زعم ابن الأزرق موافقا بذلك قول الشيعة في هذا الإمام العظيم.
وسأعمل من خلال هاتين المقدمتين مناقشة التهمتين المشار إليهما أعلاه، والله أسأل أن يرزقنا الإخلاص والسداد.
المقدمة الثانية عشرة: ادعاؤه بأن البخاري شافعي ومسلم حنبلي
إن من أعجب العجب أن تجد شخصا ينسب نفسه إلى الاشتغال بعلوم الشريعة عامة وبعلم الحديث خاصة ثم ينسب الإمامين الجليلين إلى التقليد في أكثر من موضع من مقالاته اللقيطة، فالبخاري عنده شافعي ومسلم حنبلي، بل نسب التقليد للإمام أحمد أيضا وهذا لا يقول به أحد اشتم رائحة العلم من قريب أو بعيد وإن كان من أكثر الناس عداء لهذا الإمام، ثم نجده بعد ذلك يبني على تلك الافتراءات أساطير وأوهاما، وفيما يلي نص كلامه:
ـ قال في مقال “التنقيح”: (ولست أشك أن الذي اخترع تلك الفرية شافعي متحرق على مذهبه، وجد صحيح البخاري أفضل كتاب يخدم المذهب، لأن مؤلفه شافعي، وكان رحمه الله يركز على تخريج الأحاديث المؤيدة لمذهبه في الأبواب الفقهية، وحق له ذلك، ولم يكن للشافعية كتاب يضاهي موطأ الإمام مالك أو مسند أحمد، فاهتبل مخترع تلك المقولة السخيفة بصحيح البخاري وسكر عقله المذهبي وانتشى، فما كان أمامه إلا أن يطلق ذلك الاختراع الأرعن. ويبدو أن الحنابلة قاموا برد الفعل، فأضافوا صحيح مسلم بن الحجاج الحنبلي إلى لائحة أصح الكتب بعد كتاب الله، متنازلين عن إطلاق ذلك على مسند أحمد).
ـ وقال في “سحر رسول الله خرافة يهودية”: (والشيخان رحمهما الله تابعان مقلدان، (…)، فالبخاري تابع لإمام مذهبه الشافعي رحمه الله (…)، ومسلم بن الحجاج مقلد لإمام مذهبه أحمد بن حنبل…).)
ـ وقال في “براءة أم المؤمنين عائشة…”: (وقد كان خبر السحر مشهورا بين المحدثين قبل الشيخين، وكان مصححا عند الإمامين الشافعي وأحمد رضي الله عنهما، فما كان للبخاري ومسلم إلا أن يقلدا ويسلما لمن هم أجل وأعلم).
ــ وقال أيضا في نفس المقال عن الإمام أحمد: (والإمام أحمد قلد الشافعي في تصحيح الخبر والاحتجاج بدليل أنه كان محدثا كبيرا إماما في الجرح والتعديل، خبيرا بتدليس هشام وتخليطه).
وكل مشتغل بعلوم الشريعة مطلع على فنونها سواء أكان فقيها أو مفسرا أو محدثا أو أصوليا يعلم أن هذا خلط عجيب من رجل درس في دار الحديث الحسنية وتخرج على يد أساتذتها، فالأئمة الثلاثة الذين ذكرهم هذا القائل يستحيل في حقهم التقليد، وليس كل من وافق إماما من الأئمة أو مذهبا من المذاهب يعتبر مقلدا لذلك الإمام أو متبعا لمذهبه.
ويكفينا أن نعلم أن للبخاري في صحيحه آراء خالف فيها الأئمة الأربعة، وأتي فيها بمذهب جديد، أو خالف جمهورهم ووافق أحدهم، كقوله بإجزاء القيمة في الزكاة، وهذا مخالف لمذهب الشافعي وباقي المذاهب موافق لقول أبي حنيفة، وهذا وحده يبطل ما خطته يداك يا “ابن الأزرق” من خزعبلات لا تمت للعلم بصلة، فتأمل يا هذا كلام أهل العلم الراسخين ولا تتعجل مرة أخرى في إصدار الأحكام الباطلة تقليدا منك لغيرك، ثم تبني على تلك الأوهام عقائدك وآراءك الفاسدة التي توقعك في المطبات، حيث ترمي بنفسك في فوهة البركان، وتهون عليك مرة أخرى فتضعها في مثل هذه المواقف المحرجة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (أما البخاري، وأبو داود، فإمامان في الفقه من أهل الاجتهاد، وأما مسلم؛ والترمذي؛ والنسائي؛ وابن ماجه؛ وابن خزيمة؛ وأبو يعلى؛ والبزار؛ ونحوهم؛ فهم على مذهب أهل الحديث، ليسوا مقلدين لواحد بعينه من العلماء، ولا هم من الأئمة المجتهدين على الإطلاق، بل هم يميلون إلى قول أئمة الحديث كالشافعي؛ وأحمد؛ وإسحاق، وأبي عبيد؛ وأمثالهم)[1].
فجعل رحمه الله الإمام البخاري مجتهدا مطلقا لأن فقهه ظاهر في تبويباته، بينما الإمام مسلم لم يضع أبوابا لصحيحه وبالتالي لم يقف العلماء على فقهه فجعله ابن تيمية في مرتبة وسط فهو ليس مقلدا لإمام بعينه ولا مجتهدا اجتهادا مطلقا، وهذا من أسباب تقديم صحيح البخاري على صحيح مسلم لا كما ادعى صاحبنا في إحدى مقالاته التي سننسفها في وقتها ومكانها بإذن الله.
وبين الكشميري سبب اختلاف الناس في مذهب البخاري وكيف أن أرباب كل مذهب يحاولون جعله منهم فقال: (أنه لم يصنف أحد، كتابا في مختارات الإمام البخاري كما صنفوا في مختارات سائر الأئمة، فالنظر فيها يدور على تراجمه فيجرها كل من أهل المذاهب إلى جانبه ويفسرها حسب مسائله، مع أن البخاري عندي سلك مسلك الاجتهاد ولم يقلد أحدا في كتابه، بل حكم بما حكم به فهمه)[2]، لذلك نجده له ترجمة في طبقات الشافعية الكبرى للسبكي 2/212، وطبقات الحنابلة لأبي يعلى 1/271.
وقال أيضا: (واعلم أنَّ البخاري مجتهد لا ريب فيه، وما اشتهر أنه شافعي فلموافقته إياه في المسائل المشهورة، وإلا فموافقته للإمام الأعظم ليس أقل مما وافق فيه الشافعي، وكونه من تلامذة الحميدي لا ينفع؛ لأنه من تلامذة إسحاق بن راهويه[3] أيضاً وهو حنفي، فعده شافعيا باعتبار الطبقة ليس بأولى من عده حنفيا (…) وأما مسلم وابن ماجه فلا يُعْلَم مذهبهما، وأما أبواب مسلم فليست مما وضعها المصنف رحمه الله تعالى بنفسه ليستدل منها على مذهبه)[4].
ولا يكدر علينا هذا قول الحافظ في الفتح: (وأما المباحث الفقهية فغالبها مستمدة من الشافعي وأبي عبيد وأمثالهما)[5]، لأنه قال أيضا في موضع آخر منه: (والمعروف الشائع عنه أنه هو الذي يستنبط الأحكام في الأحاديث ويترجم لها ويتفنن في ذلك بما لا يدركه فيه غيره)[6]. ثم إن أبا عبيد الذي ذكره الحافظ هو إمام مجتهد أيضا بل تروى له مناظرة مع الإمام الشافعي -إن صحت- رجع فيها الإمام ابن إدريس عن قوله إلى قول أبي عبيد فلم لا ننسبه إلى تقليده هو لا الشافعي.
قال الدكتور عتر عن البخاري: (وقد اتجه منذ حداثته إلى الفقه، فقرأ فقه أهل الرأي، ثم أخذ -بعد- فقه الشافعي، وفقه الإمام مالك أيضا. وكانت صلته بفقه الإمام أحمد بن حنبل متينة قوية، فجمع فقه المدارس الاجتهادية في عصره مما ساعده على الاستقلال برأيه. حيث انتفع كثيرا من طريقة أهل الرأي في الاستنباط ودقة النظر، ثم باطلاعه على نقد أهل الحديث لهم على وفق الحديث، فكان ذلك تمهيدا للإمام البخاري أن يكون له نظر ممتاز وفقه اجتهادي، خصوصا ولم يكن في ذلك العصر جمود المقلدين للمذاهب، بل كانوا يتفقهون ويستدلون فيوافقون أو يخالفون.
وقد اشتهر البخاري بالفقه، واعترف له بالاجتهاد، حتى قال نعيم بن حماد: «محمد بن إسماعيل البخاري: فقيه هذه الأمة»، وسماه شيخه محمد بن بشار: «سيد الفقهاء) « [7][8].
ولو استقصيت أقوال الأئمة في أن البخاري ومسلم إمامان مجتهدان لخرجت عن المقصود بهذه المقدمات، لذا سأكتفي بما ذكرت ومن أراد الاستطالة والتثبت فليرجع إلى أهل الاختصاص فإنهم بهما أعلم.
المقدمة الثالثة عشرة: اتهامه للبخاري بالكذب
إن صاحب المقالات المذكور لا يتجرأ على إصدار بعض الأحكام التي يعتقدها بشكل مباشر، وإنما يعمد إلى المراوغة والمناورة، ويترك المتلقي الذي ليس له أدنى معرفة بالبخاري أو مسلم ولم يترب على احترام علماء الأمة وفقهاء الملة يصل للنتيجة التي أرادها بنفسه، ومن ذلك اتهامه للبخاري بتعمد الكذب عن النبي صلى الله عليه وسلم، حين قال في مقاله: “محاولة انتحار المعصوم…”: (فلا يجوز للشيعة اتهام كل علمائنا بإخفاء الحقيقة التاريخية. وتوضح رواية مسلم التامة أن شيخه نسي لأنه لم يكن يكتب، أو تعمد التستر على هذه الحقيقة المرة).
إذن فإخوانه الشيعة يصيبون باتهامهم للعلماء بإخفاء الحقائق التاريخية المشوهة -كما صرح بنحوه في مقال آخر- لكنه يستدرك عليهم مبينا أن هذا شأن بعض العلماء وليس الكل، ومن بين هذا البعض نجد البخاري الذي نسي!! -وهو طبعا لم ينس أبدا لما علم من ضبطه وحفظه الذي لا يتصوره عقل ابن الأزرق- أو تعمد التستر وهذا هو المقصود، فإذا كان هذا حاله فهو كذاب مفتر على رسول الله صلى الله عليه وسلم لا محالة، وبالتالي فإنه سيسقط بمعايير المحدثين أنفسهم ولا يجوز الرواية عنه بحال، فيضيع الصحيح في غمار هذه الأكاذيب والافتراءات التي يضعها هذا الرجل الذي يضمر ما لا يظهر كما سنرى في المقدمة التالية.
خاتمة الجزء الثالث
انتهى الجزء الثالث من سلسلتي في الرد على صاحب الإفك والبهتان، وقد تعرفنا من خلاله على مدى جرأته على عظماء الإسلام في كل عصر ومصر، ووقفنا على تقليده لغيره دونما دليل أو حجة أو برهان، مع التأكيد على أن “الفتى” يظهر غالبا ما لا يبطن، لذلك لا تستطيع تحديد مذهبه ومنهجه بدقة، فهو يتلون كما تتلون الحرباء، كل يوم هو في شأن، وهذا حال أهل البدع والأهواء في كل زمان ومكان.
فما حقيقة مذهب ابن الأزرق الأنجري من خلال صريح كلامه؟
تابعوا معي المقال القادم لنساهم معا في نسف أباطيله وبيان بعده عن مذهب أهل السنة والجماعة.
وإلى ذلك الحين تقبلوا مني تحيتي، تحية أهل الإسلام: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1]– مجموع الفتاوي 20 – 40. الطبعة المتوفرة بالشاملة.
[2]– فيض الباري على صحيح البخاري للكشميري الهندي1 – 438، دار الكتب العلمية بيروت ط: 1، سنة 2005.
[3]– في نسبة إسحاق بن راهويه إلى المذهب الحنفي نظر ليس هذا محل بسطه.
[4]– المصدر نفسه 1ـ 58.
[5]– فتح الباري 1 – 243.
[6]– المصدر نفسه 1 – 82.
[7]– مقدمة ابن حجر على فتح الباري 1 – 483.
[8]– الإمام البخاري وفقه التراجم في جامعه الصغير ص: 64. الناشر مجلة الشريعة الدراسات الإسلامية – الكويت، العدد 4، سنة: 1985.