نقد فكر الفيلسوف ابن رشد الحفيد نقد موقف ابن رشد في موضوع وجود الله وصفاته وخلقه للعالم

ثالثا: نقد موقف ابن رشد من خلق العالم وأزليته:
فهل ما ذكره هؤلاء صحيح؟، نعم إنه صحيح، فإن ابن رشد قال صراحة بأزلية العالم وأبديته، بدليل الشواهد الآتية: أولها إنه ذكر صراحة أن السماوات بما فيها من عقول وأفلاك وغيرها كلها أزلية بالضرورة. وثانيها إنه أكد على أن السماء ليست كائنة -أي مخلوقة- ولا فاسدة، ولا يمكن أن تفسد، لكنها دائمة لا مبدأ لها زمانيا ولا منتهى، ولا هي قابلة للانفعال والاستحالة-أي التحلل-، فلا يُلحقها في (الحركة المحسوسة لها نصب ولا تعب، من أجل أنه ليس فيها مبدأ حركة مُخالفة للحركة الطبيعية التي فيها).
والشاهد الثالث مفاده أن العالم العلوي عند ابن رشد أزلي لا يجوز عليه التغير في الجسم ولا في الحركة، كالمحرك الأول -أي الله-، وبما أن حركته أزلية فلا يجوز أن تشتد زمانا لا نهاية له، وتفتر زمانا لا نهاية له. وهذا العالم العلوي مُكوّن من عنصر خامس هو الأثير، ويختلف عن العناصر الأربعة الأرضية -وهي الماء، والهواء، والتراب، والنار-، وهو عنصر له خصائص كالجوهر السماوي له حركة دائرية أزلية ضرورية، لا بداية لها ولا نهاية، وأما العالم السفلي -أي الأرض- فهو مُكوّن من العناصر الأربعة المعروفة، ومادته الأولى هي أيضا أزلية، وعملية التكوّن والفساد السائدة فيه، هي عملية أزلية أيضا.
وأما الشاهد الرابع -وهو الأخير- فمفاده أن ابن رشد قال صراحة بأن الزمان أزلي غير متناه بالضرورة، لارتباطه بالحركة التي هي أزلية أيضا مرتبطة بأزلية العالم القائمة على أساس حكاية العشق الذي هو علة الحركة.
ويتبين من تلك الشواهد أن ابن رشد يسير على طريقة الفلاسفة المشائين -أرسطو وأصحابه- في قولهم بأزلية العالم وأبديته، فقال بمقولتهم، ودافع عنهم، وانتصر لهم، بمختلف الوسائل، كما هو واضح في كتابه تهافت التهافت، وكتبه الفلسفية كتلخيص ما بعد الطبيعة لأرسطو، وتلخيص السماء والعالم لأرسطو أيضا.
ومن مزاعمه أيضا أنه زعم أن الموجود الواحد-أي الله- فاضت منه قوة واحدة، بها وُجدت جميع الموجودات. وأن العلماء-أي الفلاسفة- أجمعوا على أن العالم بأسره فاض عن المبدأ الأول -أي الله تعالى- وزعم أيضا أن ذلك الواحد البسيط بما أنه بسيط، إنما يلزم عنه واحد، والحق أن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد فقط.
وقوله هذا هو زعم باطل شرعا وعقلا وعلما، فأما شرعا فإن النصوص الشرعية الكثيرة، نصت صراحة على أن الله تعالى خلق العالم بإرادته ومشيئته واختياره ولم يفض عنه، وأخبرنا الله تعالى أنه سبحانه فعال لما يريد، وخلاق عظيم، وأنه على كل شيء قدير، ولا حدود لقدرته، وأنه خلق مخلوقات كثيرة جدا، لذا لا يصح أبدا الزعم بأن الله تعالى لا يصدر عنه إلا واحد.
وأما عقلا فإن ذلك الزعم هو ظن وتخمين ووهم، ورجم بالغيب وقول على الله بلا علم، لأن الموضوع الذي خاض فيه وأصدر حكمه عليه هو غيب مطلق لا يمكن للعقل البشري أن يخوض فيه، ويصدر ذلك الحكم فيه، ولا يُعرف إلا عن طريق الوحي، وليس له في زعمه هذا دليل من الشرع، وزعمه هذا هو في الحقيقة وصف لله تعالى بالعجز والتعطيل، بطريقة ظاهرها الثناء وباطنها النفي والتعطيل والقول بالضرورة.
وأما علما فإن العلم الحديث أثبت بأدلة كثيرة أن العالم كله خُلق خلقا بعد أن لم يكن، وهو كثير التنوّع، ومر بمراحل عديدة شهد خلالها مخلوقات كثيرة جدا، بعضها انقرض، وبعضها الآخر ما يزال حيا، كل ذلك تمّ بناء على الخلق الأول، مصداقا لقوله تعالى: (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ) سورة الأنبياء: 30، فأين حكاية الأزلية، والواحد الذي لا يصدر عنه إلا الواحد، ودور العقول المفارقة التي شاركت الله في خلق العالم؟؟!!.
وأما قوله بأن الفلاسفة أجمعوا على القول بأن العالم فاض عن الله فهو لا يصح، لأن نظرية الفيض لم يقل بها كل الفلاسفة، وإنما قال بها أفلاطون وأصحابه، وتأثر بها بعض الفلاسفة المسلمين. علما بأن أرسطو وأصحابه قالوا بأزلية الحركة والعالم، ولم يقولوا بالفيض، مع أن القول بالأزلية والفيض يتضمن تناقضا واضحا، فإذا كان العالم أزليا -حسب ابن رشد وأصحابه- فهذا يعني بالضرورة أنه لم يفض عن الله، وإذا كان العالم قد فاض عنه فهذا يعني بالضرورة أنه ليس أزليا مهما أوغل فيضانه في الزمن، لأنه في النهاية حادث مخلوق.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *