الكتابة أمانة عظيمة ورسالة جسيمة، ولا يعتبرها كذلك إلا من كانت له قيم ومبادئ نبيلة توجّه سيره وتسدّد رميه، فذاك الذي يقضّ فكره ما يراه من عبث هنا وهناك، وذاك الذي لا تستقيم أنفاسه وقد اختنقت بغبار التفاهة وأحاطت بها سموم الرذيلة.. وغالبا ما يكون همّه البحث عن طوق نجاة لأمته وليس الظفر بمنصب أو جاهٍ يُباهي به أقرانه.. لكن قلّ ما يجودُ الزمن بمثل هذا الأديب الصادق الناصح المتجرد عن عرَض الدنيا.. وما يحزّ في النفس ويزيدها كمدًا أنْ نرى أقلام العبث تتصدر الساحة الفكرية وتزيد طين الأمة بلّة غير عابئة إلا بنفسها ومصلحتها، وشرفاء أهل الأدب تأكلهم سراديب النسيان، وتقتات آهات الحسرة من قلوبهم.
يقول الشيخ الطنطاوي -رحمه الله- في كتابه («صور وخواطر»؛ ص:37): «وكم من أديب، أديب حقاً.. قد طاعت له عَصِيَّــات الكلم وذلّت له العوالي من قطوف البلاغة، قد انزوى في خُصِّه لا يدري به أحد.. ودعيّ جاهـــل لصّ مَعـــانٍ وصفَّــــاف كلمات، قد جُمع له المجد الأدبــــي من أطرافه فكان له الاسم السائر والمال الوافر..».
ونقل الجاحظ في «البيان والتبيين» قول لله أحدهم:
أرى زمـنـا نـوكـاه أسـعـد أهــلـه***ولكـنما يشـقـى به كـل عـاقـل
مشى فوقه رجلاه و الرأس تحته***فكبّ الأعالي بارتفاع الأسافل
ومن الشخصيات التي لم تأخذ حظها من الذيوع، ولم تستفد الأمة من غزير علمها وفيض عطائها كما يُفترض، الشيخ الشاعر الأديب الألمعي محمد بن إدريس بلبصير، قال عنه الشيخ عبد الله بلمدني مدير دار القرآن ببني ملال -كما نقل ذلك الأديب ربيع السملالي في أحد مقالاته-: (إنّ شاعرَنا سيدي محمد بلبصير ليسَ شاعرًا عاديًا ولا مُتكلّما بادياً ولا قوّالاً في كلّ ناد راويًا. ولا منشدًا بشعره مسَلّياً وإنّما هو شاعر يحملُ هُمومَ أمّة ليكشفَ بشعره ما أصابها من غُمّة. فهو رجل بهموم أمّته مسكون، وبحالها مغموم ومحزون، يسوقه الهمّ تارة إلى محراب المناجاة. فيرفع عقيرته إلى ربّ الأرض والسّموات بكلمات نيّرات تتخيّلها من الوحي قبسات، وتتراءى لك من الله الكريم فتوحات وإلهامات).
ولعلها جرأة مني أن أقتحم هذا الحصن المنيع بما معي من زاد يسير، بيْد أنّ عذري أني لا أدّعي لنفسي في مقالتي هذه قراءة نقدية لعمل من أعمال شيخنا الجليل، فلا أملك من المقومات الفكرية والشعرية ما يؤهلني لذلك، إنما هي قراءة تذوقية وفسحة سريعة على ضفاف قصيدة جديدة لشاعرنا الفذّ، أحببت من خلالها الوقوف على أهم المعاني التي رسمها من خلال «أحاديث السّراديب». وكم كنتُ أعشق هذا النوع من القراءات أيام الدراسة بالثانوي، تستهويني القصائد الهادفة التي تحوي بين ثناياها قضايا جادّة، فأعكف عليها قراءة وحفظا وتلخيصا، وأحتفظ بالأبيات البديعة في ذاكرتي لأغْني بها مواضيعي الإنشائية.
لعلّ أول ما يطالع القارئ في أيّ عمل إبداعي عنوانه، وعنوان قصيدتنا اليوم يحمل معاني عظيمة خفيّة اختزلت هموم القصيدة في كلمتين «حديث السّراديب». والسرداب -كما هو معلوم- مكان خفيّ غير ظاهر يماثل القبو، فكأني بالشاعر يرمز للأحاديث بالسرداب كناية عن خفائها، هي أحاديث تعتمل بداخل كل نفسٍ أبيّة، أماني لا تكاد تجهر بها، لكنّ وجودها يشبه ما كانت تُنشأ لأجله تلك السراديب وهي الحماية من حرّ الصيف، فهذه الأحاديث كأنها رذاذ يتساقط على النفوس المتوقّدة من لهيب أيامنا المكفهرة، فيبعث فيها بعض الأمل، ويهوّن على النفس بعض كربها وحرّ صيفها، وكم هو ساخن صيف أيامنا، بل كل فصولنا غدت صيفا متوقدا!!
أحاديثُ السّراديب العميقة***تهزّ بيابس الحِقب السّحيقة
ولأنّ (بعض الشعر يجعلك تتنفس حين تختنق بالوجع)، فإن أبيات القصيدة الثلاث والثلاثون بقدر ما تحمل من همّ نشاطر الشاعر ثقله وحِمله، بقدر ما نتنفّس عبقا جميلا ونحن نتفيأ ظلالها الوارفة.
تبكي كلمات القصيدة في مطلعها بكل حرقة ماضيًا تليدًا لأمة عريقة تناست في ظلّ إخفاقاتها مجدًا بلغ أوجُ بريقه كل الدنى.
تراود كل وهم عن صداه***تريد رمـاد سنـبلة حريقة
لعـلّ حطام هاتيك المرايا***يعـيد لغـائـر يـوما بريـقـه
على وتر الجراح تثير لحنا***نسينا أم تناسينا شهيقه
لكن أنّى لهذا الصراخ أن يستنهض أمة طال هجوعها واشتد تسبيخها، وغدت كالغثاء لا خير يرجى من كبيرها ولا صغيرها، أمةٌ وأَدَت نور شمسها وتنكّبت عن صراطها القويم، فاجْتالتها الشياطين.
خليليّ أين مني ضوء شمس***وأدْناها بمقبرة الحقيقة
نحاول نفخ روح في رمـيـم***تلاشى مذْ تنكّبنا الطريقة
إنّ النفوس الخسيسة لن يروّعها حال أمتنا اليوم، ولن يحزّ في نفسها أن يبسط الجهل رداءه بيننا، لأنّ الجهل غنيمة عند أراذل القوم وسفهائهم، مرتع خصب تقتات منه وتبني به عروشها، وعلى جناحه تطير لتبسط سطوتها.
وصرنا ريشة بجناح جهل***علا أرضًا محال أن تطيقه
كأنّا قـد خـلـقـنـا من فـراغ***يحـقّ له التّـنـكر للخـليـقة
فهل يا أمة القرآن خُلقت من فراغ؟ وهل غدا تاريخك سبّة تتنكرين منه وتخجلين من الانتساب إليه؟
وكم راق لي تصوير الشاعر لحال المؤامرة التي وقعت الأمة ضحيتها، حين اعتبر الخدمات التي يدعي الأعداء تقديمهم لها، بأنها ليست إلا نعشًا اعتقده السفهاء «حِدج العشيقة» فارتموا في أحضانه متأمّلين لياليه الدافئة التي سينعمون بها. فغنّوا لحون «أسيادهم»، وتكلموا لغاتهم، ونفذوا مخططاتهم، وبدم بارد قتّلوا شعوبهم، وبسكين واحدة مزّقوا ستر أمتهم.
لقـد صـنـع لـنـا الأنـذال نـعـشًا***حسبـنـا أنـه حِـدج العـشـيـقة
فغـنـيـنـا لحـون الطـيش طـرّا***وأعـطـيـنا المـواثـيـق الوثـيقة
على أن نركب الهوجاء زُلفى***لهم ونُحارب الشمس الشريقة
وكيف لا يفعلوا والمودة تحتاج إلى بيان، والسيد لن يرضى إلا بتقريب القربان تلو القربان!!
لكي ترضى الصديقة عن خطانا***فقد وجبت قرابين الشقيقة
وها هي القرابين تُذبح كل عام، بل كل شهر، ويح قلبي بل كل يوم وكل دقيقة.. فهل أبقوا فينا من إنسان؟
وقد ساق الشاعر -جزاه الله خيرا- بعد ذلك بعض مظاهر الخزي والتبعية التي تمرّغت الأمة في وحلها، بسبب السعي المستميت لحكامها خلف «تاج الخزايا» وعشقهم الدفين للكراسي، وإن كان الثمن دماء بريئة تُراق على أعتاب قصورهم.
سباقات إلى تاج الخزايا***تريق دمًا عزيزًا أن تريقه
لقد غدت أمتنا مسخا مشوها، لا هوية له ولا ملامح، توارت رايات العزة والأنفة خلف سنوات الذلة والمهانة التي سفّتها الشعوب عقودًا من الزمن، وكيف لا تغدو كذلك وقد صارت ترتضع من كل ثدي، وتستمرئ كل لبن، حتى تغير جلدها وتلعثم لسانها وتشوه فكرها وحاد عن السبيل منهاجها.
رضعنا من ثدي مسترضعات***سموما في زجاجات أنيقة
فـبدّلـنـا جـلـودا لـيـس فـيـها***ولا أدنـى مآثـرنا العـريـقة
لسان أعجـمي في اضـطراب***بلا معـنـى ولا لـغـة طليقة
ويسترسل الشاعر في تسليط الضوء على بعض تجليات هذا الهوان الذي نحياه والاستيلاب الذي أخذ بتلابيب العقول حتى أذهلها، مِن تنكر القوم لهدْي دينهم، واتهامهم قرآن ربّهم بالرجعية والعجز عن احتواء قضايا العصر، والافتتان بكل ناعق وناهق، وتقليد كل ما هو تافه، والانجذاب نحو ثقافة السخافة والأجساد العارية وهذا تا الله ما حذّر منه الرسول صلى الله عليه وسلم حين قال: (لَتَتْبَعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْرًا شِبْرًا وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ تَبِعْتُمُوهُمْ قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى قَالَ فَمَنْ) متفق عليه، أو كما جاء في رواية أخرى (حذو القذة بالقذة)، وفي هذا (كناية عن شدة الموافقة لهم في المخالفات والمعاصي لا الكفر، والقذة بالضم هي ريش السهم وهو دال على كمال المتابعة). يقول الشيخ بلبصير:
وأنكرنا هدى القرآن هديُا***وقلنا فيه أفكار عتيقة
وهِمنا بالتفاهة نقتـديها***بعارية تصول وبالحليقة
وقلدنا دنايا القوم حتى***حمار الغرب غنّينَا نهيقه
وبكل قوة يستهجن الشاعر هذا التقليد، ويدعو الأمة للنظر في أحوال الأمم الأخرى من خلق الله التي تأبى أن تنسلخ عن طبعها، أو تتنكّر لفطرتها، أو تشدو لحنا غير لحنها، فالعصافير مذ عرفناها وهي تتنغم بتغريداتها، والضفادع لا تفقه غير نقيقها، وكذا الحوت ما ابتغى غير البحر سكنا ومأوى، والنّحل ما فتئ يمتص رحيقه من الأزهار، فلِم نصرّ نحن على اقتفاء أثر الخنازير النتنة وديننا منها براء؟!
لــكــل أمــة يــنـمـى إلـيـها***فـكـيـف بطائـري يأبى فـريـقه
يـغـني كـل عـصفـور غـناه***ويشـدو ضفـدع الوادي نقـيتقه
ويحيا الحوت في دنيا بحار***ويرعى النّحـل أزهار الحديقة
ونحـن نـقـلد الخـنـزير نـتـنا***ونخـبط خـبطه نحـدو طريقه
وعودًا على بدء تعود أحاديث السراديب المكلومة، مناشدة هذه الأمة أن تستفيق، ففي أوبتها ونهضتها عودة للإنسانية، وإنقاذ لهذه البشرية، بأوبتها ستهتدي هذي القلوب الشريدة، وتعود تلك الديار السليبة، ألا فلترعوي يا أمتي، فكل القلوب تئن من وطأة الألم كل دقيقة، فهل أنت مستفيقة؟
ألا فـلـتـرعـوي يـا رمـز مـجـد***خـسـرناه بـنومـتـك العـميقة
أفـيـقـي تـرحـمـي مدنًا وزرعًا***وأنـعـامـا تُحـرق في دقـيـقـة
أفـيـقـي ترحـمـي طـفـلا وأمـا***وشـيـخـا فـاقـدا دمـه وريـقـه
أجيبي صوت سرداب الحشايا***ينادي أخبروني: ما الحقيقة؟
تلكم كانت قراءة سريعة غير عميقة في قصيدة تحمل من المعاني الشيء الكثير، قصيدة جادّة في زمن الهزل، فصيحة في زمن العيّ والحصر، قصيدة من قلب مكلوم ينزف بنزف جراح أمته و(حُقّ لكل قلبٍ حيّ أن يأرق) كما قال توفيق الصايغ.
فكيف بالله عليكم ترتقي قصائد الإسفاف والهذر المنابر، وتقبع مثل هذه القصائد خلف الستائر. وقدْ صدقَ أحدهم حين قال بعد قراءته لديوان الشيخ (دم وقلم): (قرأتُ ديوانَك التّليد، فعرفتك من جديد، فعذرًا على ما فاتَ من جهلي الأكيد).
ولكم أقول أيضًا:
عذرا شيخنا الشاعر القدير.. عذرا.