تمتد جذور التغريب -من الناحية التاريخية- إلى القرن السادس عشر الميلادي الذي تزامن مع الحملة الاستعمارية الكبرى بقيادة “الغزاة”. ثم تدرج مع زمن الاكتشافات العلميـة الكبرى، إلى أن بلغ ذروته في القرنين التاسع عشر والعشرين الميلاديين.
وبعد أفول مرحلة الاستعمار، انتقل التغريب من مظهر العنف والقوة إلى مظهر الهيمنة الخفية والتوجيه العقلي المخطط والمدروس، وما يصاحب ذلك من الإغراء والفتنة وخلق الآمال الكاذبة بالخلاص، عبر وسائل التأثير الأكثر تغلغلا، وبطرق غير مباشرة لا يتفطن إليها معظم المثقفين بله العوام.
يقول سرج لاتوش: «ذكرت في كتابي السالف الذكر[1] طريقة توضح ما أسميه ب “التأحيد الكوني”. ذلك أنه خلال سنة 1985 وأنا أتجول في شوارع الجزائر العاصمة مع أحد قدماء طلبتي، بادرني بالقول: “انظر، إن الشوارع أصبحت فارغة، إنه موعد بث فيلم “دلاس”. وكان الأمر فعلا ملفتا للنظر في مدينة تتميز بالصخب والازدحام.
إن هذه الظاهرة تبرز مع عالمية وسائل الإعلام قضية العولمة الكونية شبه التامة، والتي لا تمس إلا جانبا من جوانب وجودنا، ولكن بشكل عميق جدا، إن هذه الظاهرة حديثة جدا جاءت بعد التخلص من الاستعمار.
إن هذه الظاهرة تختلف تماما عن الشكل التقليدي للتغريب الذي عرف إبان الحقبة الاستعمارية. فأندونيسيا مثلا، رغم الاستعمار القاسي الذي عرفته على يد البرتغال والذي كان قصيرا نسبيا، ثم على يد الهولانديين والذي يوصف بحدته عادة، استطاعت أن تحافظ على جوهر عاداتها وتقاليدها، ولكن بضع سنوات من السياحة كانت كافية لتحطيم نمط حياتها التقليدية بعد الاستقلال.
وبما أن الظاهرة حديثة وجاءت عقب التخلص من الاستعمار، فهل يبقى مشروعا الحديث عن التغريب وتحمل الغرب لهذه التطورات؟
يبدو لي أن الأمر كذلك.
إن ما يصطلح عليه صديقي جون شينو في كتاب له “الحداثة/العالم” أي تعميم الحداثة على مجموع العالم، ما هو إلا تمديد عالمي لظاهرة نشأت أصلا في الغرب. وأعتقد أن الحداثة أصبحت الآن نوعا من الآلية التي لم يعد في استطاعة أحد التحكم فيها، وهو مسلسل يشتغل على المستوى الكوني ويتسم أكثر فأكثر بالغموض. هذه “الحداثة/العالم” ترتكز على القيم التي تدعي العالمية، والتي نشأت وتجذرت جغرافيا وتاريخيا في الغرب»[2].
وفيمـا يخـص العالم الإسلامي، فقد قامت حركة التغريب -وما تزال- بمحاولات متعددة تستهدف احتواء الفكر الإسلامي وسلخ المسلمين عن هويتهم وشخصيتهم وحثهم على التكيف مع ذهنية الغرب والاستئناس بها.
لم يكن الاستعمار الغربي ليكتفي بالغلبة “الظاهرة” ، الغلبة العسكرية والسياسية والاقتصادية والتقنية، ذلك أن استقرار الغلبة وديمومتها قد احتاج ليس فقط للقضاء على القوة الظاهرة أو ما اصطلحنا على تسميته “بالمقاومة الأولى” ، وإنما أيضا للتوغل في عمق الإسلام لضرب القوة الباطنة، هذه القوة الكامنة في الدين رغم الهزيمة السياسية-العسكرية والانهيار الحضاري وجمود الحركة في المجتمع.
وبما أن وجود الجماعة المسلمة ملتحم بالشرع، فـإن نفي هذا الأخير وتطويقه وتهميشه وعزله، بات يشكل همًّا استراتجيا عند الغالبين. ورغم كل محاولات التفسيخ والتفكيك العنفي، فقد استمرت الجماعة كأساس لنسق حضاري، يؤمن تواصل الحاضر بالماضي عبر مروحة من العلاقات التي ليست من الضروري أن تكون في موقع الغلبة والهجوم لتكتسب شرعيتها التاريخية.
كانـت الحضارة الأوربيـة من خلال مشروعها الاستعماري تحاول تسريب نموذجها المشرع بالعنف في ثنايا المجتمع العربي/الإسلامي، مستهدفة إلغاء عراه الداخلية المعاندة لوجه تسربها، فتعمل على استئصالها واحدة تلو الأخرى، وقطع الشرايين التي توحد المجتمع الأهلي، وعزل القنوات المترابطة في المجتمع كمقدمة لإلغاء الإسلام، وإلحاق المجتمع واحتوائه وتغريبه، مما يسهل خلق دولة تابعة منفصلة عن المجتمع ومتناقضة معه، ويساعد على دفع المجتمع في متاهات ثقافية تحول دون وعيه لذاته الحضارية وتحول دون رفضه للآخر؛ أي للغرب الحضاري.
على المستوى التنفيذي باشرت عملية التغريب بتحطيم مفاصل المجتمع الإسلامي المرتكزة على العقيدة والثقافة، ووضعت في رأس مهماتها تبديل العلاقات الاجتماعية وإبعاد الشرع عن أنماط التعليم والتربية. هذه الأمور -إذا ما تحققت- كان من شأنها المساعدة على استقرار النهب الاقتصادي ووضع المجتمع في علاقة تبعية دائمة للمركز الأوربي الغالب.
ومن ناحية العلاقات الاجتماعية، استهدفت سياسة التغريب إحلال نسيج آخر للروابط الاجتماعية بين الأفراد والجماعة من خلال إدخال المفاهيم الأوربية المتعلقة ببنية العائلة ودور المرأة، وعلاقة الألفة والتضامن في القرية والعائلة والحي، واستبدالها بوحدات أخرى أضعف، وأكثر تسهيلا للتفتيت والسيطرة؛ كالفرد والمدينة. فالمدينة تسعى لتجميع الأفراد بعد أن هجروا وحداتهم الاجتماعية الأصلية بحثا عن الحياة والمال والسلطة، إثر ضرب العلاقات الزراعية، وتقوم «المدينة» بربط هؤلاء الأفراد المشتتين بمؤسسات جديدة غريبة عنهم لم يعرفوها، مؤسسات تقمعهم وتكبتهم.
وفي هذه المدن نمت وسادت الطبقة الوسطى حيث أخـذ اللباس وتعميم الزي الغـربي أهمية خاصة، يبدو الغرب وكأنه “آلة تعمم الشبه بين المجتمعات من دون كابح وتتوسل أداة السيطرة لهذا التعميم”. كانت دعوة الغرب التمدينية تقوم عل فرض حضارة مكتملة ومتميزة على مجتمعات مختلفة في سياقها التاريخي-التقافي»[3].
وقد كان المستعمر في المغرب -شأنه في البلدان الإسلامية الأخرى- يحرك آلة التغريب من خلال ثلاث قوى كبرى هي: المدرسة والثقافة والصحافة. وبعد الاستقلال ظلت هذه القوى مرتبطة بالتغريب اللامرئي البالغ النفاذ والتأثير. واستعمل التغريب من أجل إحكام قبضته على المسلمين، مؤسسات التنصير والاستشراق، في تحريك الخلافات والصراعات داخل الشعوب الإسلامية عبر إثارة النزعات العصبية القديمة، وإحياء القوميات القديمة كالفرعونية والفارسية المجوسية، وتشجيع البحوث والدراسات في الحركات الهدامة كالباطنية والخرمية والبابكية.
ومن مظاهر التغريب في المغرب الأقصى زمن الاستعمار والاستقلال يمكن ذكر مايلي:
أ) تأسيس المدارس والمؤسسات الفرنسية الداعية إلى التنصير والإباحية.
ب) حث المسؤولين على الدخول في اتفاقيات التبادل الثقافي والتعاون الفكري، من خلال إرسال بعثات طلابية إلى الجامعات الغربية ليخضعوا لعملية التغريب.
ج) ممارسة الضغط والدخول في مساومات مع الزعماء السياسيين، والاستغلال الاقتصادي الذي كرس التبعية للغرب.
د) إصلاح التعليم عبر إدخال برامج غربية ذات أهداف تغريبية.
هـ) إبعاد الشريعة الإسلامية عن التعليم والقضاء والتنظيم الإداري والسياسي والاجتماعي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
* من كتاب: الاستغراب في الفكر المغربي المعاصر.
[1]ـ (تغريب العالم) Serge La Touche, “L’Occidentalisation du monde” Ed. La Découverte . Paris 1989
[2] ـ سرج لاتوش “تنميط العالم: محاولة في فهم آليات التغريب ومحدودياته” ترجمة مصطفى المرابط ومحمد أمزيان، مجلة: المنعطف (فصلية ثقافية) العدد:11، ص:41-42.
[4] ـ نادي إسماعيل “الخطاب العربي المعاصر” (قراءة نقدية في مفاهيم النهضة والتقدم والحداثة)، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، سلسلة الرسائل الجامعية3، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، ص:105-106.