غاية المفسر من تفسير القرآن الكريم الدكتور: سفيان ناول/ أستاذ باحث

تحدث الشيخ محمد الطاهر بن عاشور التونسي (ت 1393 هـ / 1973م) في كتابه التنوير والتحوير عن ما يحق أن يكون غرض المفسر، إثر مقدمات ثلاث؛ تحدث في أولاها عن التفسير والتأويل وكون التفسير علما، وفي الثانية عن استمداد علم التفسير، وفي الثالثة عن صحة التفسير بغير المأثور، ومعنى التفسير بالرأي ونحوه. وفي المقدمة الرابعة بيانٌ لغاية المفسرين من التفسير على اختلاف طرائقهم، وتوجيهٌ إلى المقاصد الأصلية التي جاء القرآن لتبيانها. وفائدةُ ذلك الوقوف على الحقائق التالية:
أولا: قياس مدى اتصال التفسير بالغاية التي رامها المفسر، والحكم بمقدار ما أوفى به وما تجاوزه.
ثانيا: التفرقة بين من يفسر القرآن بما يخرج عن الأغراض المرادة منه، ومن يفصل معانيه تفصيلا.
ثالثا: معرفة طرائق المفسرين للقرآن.
رابعا: الاطلاع على مستنبطات القرآن في كثير من العلوم.

1. المقصد الأعلى من نزول القرآن الكريم
إن الغاية التي من أجلها أنزل الله تعالى القرآن هي صلاح أمر الناس كافة، بتبليغهم مراد الله منهم، قال تعالى: وَنَزَّلْنا
1عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ . والمقصد الأسمى منه تحقيق صلاح الأحوال في مستويات ثلاث:
مستوى الصلاح الفردي: ورأس الأمر فيه صلاح الاعتقاد إذ هو مصدر الآداب والتفكير، ثم صلاح السريرة الخاصة، بالعبادات الظاهرة كالصلاة، والباطنة كالتخلق بترك الحسد والحقد والكبر.
مستوى الصلاح الجماعي: وبما أن الكل لا يصلح إلا بصلاح أجزائه، فهذا المستوى متصل بسابقه، فالأفراد أجزاء المجتمع، ولا بد هنا من ضبط تصرف الناس بعضهم مع بعض على وجه يعصمهم من مزاحمة الشهوات ومواثبة القوى النفسانية، وهذا هو علم المعاملات، ويعبر عنه الحكماء بالسياسة المدنية.
مستوى الصلاح العمراني: ويقتضي حفظ نظام العالم الإسلامي، وضبط تصرف الجماعات والأقاليم بعضهم مع بعض بحيث تُصان مصالح الجميع، وتراعى المصالح الكلية الإسلامية، وتحفظ المصلحة الجامعة عند معارضة المصلحة القاصرة لها، ويسمى هذا بعلم العمران وعلم الاجتماع.
وقد تعبدنا الله تعالى بمعرفة مراده من كتابه والاطلاع عليه، وهو مودع في ألفاظ القرآن التي خاطبنا بها فقال: 2 كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ . بغض النظر عن الخلاف حول إمكان الاطلاع على تمام مراد الله تعالى3 ، من عدمه4 ، إذ لا طائل تحت هذا الخلاف مادام تعذُّر الاطلاع على تمام مراده تعالى لا ينافي التكليف باستقصاء البحث عنه بحسب الطاقة ومبلغ العلم.
وقد اقتضت الحكمة الإلهية أن يكون اللسان العربي مَظهرا لوحيه، ومستودَعا لمراده، لكونه أفصح الألسن وأسهلها انتشارا، وأكثرها تحملا للمعاني مع وجازة اللفظ، ولكون الأمة المتلقية للتشريع والناشرة له قد سَلمت من أفن الرأي عند المجادلة، ومن التكالب على الرفاهية القاعدة بأهلها عن تلقي الكمال الحقيقي.
والأكيد أن خطاب العرب بالقرآن لا يقتضي كون التشريع قاصرا عليهم أو مراعيا لخاصة أحوالهم، بل إن عموم الشريعة ودوامها وكون القرآن معجزة دائمة مستمرة ينافي ذلك. وما رعاية أحوالهم والتوجه بالخطاب إليهم في كثير من القرآن، إلا لكونهم مخاطبين بالشريعة قبل بقية أمة الدعوة، فهم مطالبون بتلقيها ابتداء ثم بثها ونشرها. قال تعالى: 5مَا كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا . وقال: أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ} 6.

2. المقاصد الأصلية لبيان القرآن الكريم
المقاصد7 الأصلية التي جاء القرآن بها ثمانية وهي:
الأول: إصلاح الاعتقاد وتعليم العقد الصحيح. وهذا أعظم سبب لإصلاح الخلق، لأنه يزيل عن النفس عادة الإذعان لغير ما قام عليه الدليل، وقد أشار إلى هذا المعنى قوله تعالى: (فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك وما زادوهم غير تتبيب)8 فأسند لآلهتهم زيادة تتبيبهم، وليس هو من فعل الآلهة ولكنه من آثار الاعتقاد بالآلهة.
الثاني: تهذيب الأخلاق قال تعالى: (وإنك لعلى خلق عظيم) 9 وفسرت عائشة رضي الله تعالى عنها لما سئلت عن خلقه صلى الله عليه وسلم فقالت: كان خلقه القرآن. وفي الحديث الذي رواه مالك في الموطأ بلاغا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (بعثت لأتمم مكارم حسن الأخلاق) 10.
الثالث: التشريع قال تعالى: (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله)11 ، قال الشاطبي: “لأنه على اختصاره جامع؛ والشريعة تمت بتمامه ولا يكون جامعا لتمام الدين إلا والمجموع فيه أمور كلية” 12.
الرابع: سياسة الأمة؛ وهو باب عظيم في القرآن، القصد منه صلاح الأمة وحفظ نظامها كالإرشاد إلى تكوين الجامعة بقوله: (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها) 13 .
الخامس: القصص وأخبار الأمم السالفة للتأسي بصالح أحوالهم قال تعالى: (نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين) 14.
السادس: التعليم بما يناسب حالة عصر المخاطبين، وما يؤهلهم إلى تلقي الشريعة ونشرها وذلك علم الشرائع وعلم الأخبار وكان ذلك مبلغ علم مخالطي العرب من أهل الكتاب.
السابع: المواعظ والإنذار والتحذير والتبشير، وهذا يجمع جميع آيات الوعد والوعيد، وكذلك المحاجة والمجادلة للمعاندين، وهذا باب الترغيب والترهيب.
الثامن: الإعجاز بالقرآن ليكون آية دالة على صدق الرسول؛ إذ التصديق يتوقف على دلالة المعجزة بعد التحدي، والقرآن جمع كونه معجزة بلفظه ومتحدي لأجله بمعناه والتحدي وقع فيه قال تعالى: (قل فأتوا بسورة مثله) 15.
فغرض المفسر بيان ما يصل إليه أو ما يقصده من مراد الله تعالى في كتابه بأتم بيان يحتمله المعنى ولا يأباه اللفظ من كل ما يوضح المراد من مقاصد القرآن.
====================
1- ـ سورة النحل: 89.
2- ـ سورة ص، الآية 29.
3- ـ وهو قول الأشاعرة والمشائخي والسكاكي من المعتزلة.
4- ـ وهو قول بقية المعتزلة.
5- ـ سورة هود، الآية 49.
6- ـ سورة الأنعام، الآيتان 156 ـ 157,
يرى الدكتور الريسوني أن مقاصد القرآن على ثلاثة مستويات: مقاصد الآيات، مقاصد السور، مقاصد عامة للقرآن. انظر : جهود الأمة في مقاصد – 7 القرآن الكريم، ضمن بحوث المؤتمر العالمي للباحثين في القرآن الكريم وعلومه.
8- ـ سورة هود، الآية: 101.
9- ـ سورة القلم، الآية:4.
10- ـ الموطأ: كتاب الجامع، باب ما جاء في حسن الخلق، وقد رواه مالك بلاغا بلفظ: «بعثت لأتمم حسن الأخلاق ». ورواه البخاري في “الأدب المفرد” رقم (273 )، و ابن سعد في الطبقات ( 1/192) والحاكم (2/ 613) وأحمد (2/318)، و ابن عساكر في” تاريخ دمشق ” (6/267/1 ) من طريق ابن عجلان عن القعقاع بن حكيم عن أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعا .
11- ـ سورة النساء، الآية: 105.
12- ـ الموافقات، لإبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي، أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان، دار ابن عفان، الطبعة الأولى 1417هـ/ 1997م ، 8/ 243
13- ـ سورة آل عمران، الآية: 103.
14- ـ سورة يوسف، الآية: 3.
15- ـ سورة يونس، الآية: 38.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *