دولة الملالي الخمينية من باريس إلى المنامة طارق الحمودي

من إيران إلى النجف إلى كربلاء، ثم إلى باريس، ثم إلى بيت منعزل في مدينة كاشان الفرنسية حيث سيمضي الخميني فترة هي أهم فترات مشروعه السياسي الذي أقامه ظاهرا على معارضة سياسية تدعو إلى رفع الظلم عن الشعب الإيراني وتحقيق العدالة الاجتماعية، وباطنا على مشروع “ولاية الفقيه“، فبعد 112 يوما في فرنسا، سيعود الخميني إلى طهران بعد هروب الشاه إلى مصر سنة 1979، وستبدأ قصة الجمهورية الإسلامية الإيرانية قصة دولة الملالي الشيعية.

استعان الخميني بثلاثة شباب في فرنسا لإدارة معارضته للشاه، إبراهيم يزدي الذي تولى الجانب الإداري لمشروع الخميني، وصادق قطب زاده اللسان الإعلامي، وكلاهما درسا في أمريكا ومن ذوي الميول العلمانية، وأبو الحسن بني صدر الواجهة السياسية، وكلهم سيتخلص منهم الخميني مكرا وخداعا، فيسجن إبراهيم ويقتل صادق لمعارضته “ولاية الفقيه“، وينفي بني صدر الذي استقر في باريس، وهي الوسائل الثلاثة التي تفاوض فيها مشركوا مكة في حق النبي صلى الله عليه وسلم ، القتل والإثبات والإخراج، واستعملها الخميني جميعا!

لعل أهم ما يثير القارئ لبدايات القصة هو أنه لم يكن من الحكومة الفرنسية أي رد فعل ظاهر، بل زعم السياسيون الفرنسيون أن المخابرات الفرنسية لم تكن تعرف ما يجري..! كما زعم الأمريكيون أنهم لم يكونوا يعلمون أن الشاه الإيراني الذي وضعوه بأنفسهم على كرسي العرش كان مريضا بالسرطان، والعجيب أن المخابرات الفرنسية كانت تعلم بمرضه، وهو في طهران، ولم تكن تعرف بنشاط الخميني وهو على بعد عشرات الكيلومترات من مقر المخابرات الفرنسية في باريس! فإن أضفت إلى هذا أن الخميني عاد في طائرة تابعة للخطوط الجوية الفرنسية أعدت خاصة للخميني وحاشيته، اكتشفت بعدها أن أنف الحكومة صار بطول برج إيفيل، وكذلك أنف الحكومة الأمريكية بطول تمثال الحرية الفرنسي!

قبل أن يخرج من فرنسا، شكرها الخميني حكومة وشعبا، وحق له ذلك، فقد مكنه الفرنسيون من صناعة دولة الملالي في فرنسا، وأعانه المثقفون الفرنسيون الملاحدة على ذلك مثل “ميشيل فوكو” و”جان بول سارتر” و”سيمون دي بوفوار” بالتصفيق، بل كتب “ميشيل فوكو” مقالا يمدح فيه الدعوة الخمينية في ظاهرها، لأنهم لم يكونوا يعلمون أن الأمر متعلق بولاية فقيه لا بحكم جمهوري! فقد كان خطاب الخميني مرضيا للنخبة الفرنسية إذ كان يتحدث عن حقوق الإنسان وحقوق المرأة، وعن الديمقراطية وتداول السلطة والمساواة السيساية بين الرجل والمرأة، ولم يكن المضحوك عليهم يعرفون أيضا أن الرجل يستعمل لغة قديمة جدا، تنتمي إلى أدبيات الفكر الشيعي، وهي “التقية” والكذب.

ترجع فكرة ولاية الفقيه إلى اختيار فقهي داخل المدرسة الإمامية الشيعية، وقد حققها ودعا إليها العلامة الشيعي علي بن الحسين العاملي الكركي، والملقب بالمحقق الثاني[1]، ومن نصوصه في ذلك قوله: «اتفق أصحابنا على أن الفقيه العدل الإمامي الجامع لشرائط الفتوى المعبر عنه بالمجتهد في الأحكام الشرعية نائب من قبل أئمة الهدى في حال الغيبة في جميع ما للنيابة فيه مدخل، فيجب التحاكم إليه والانقياد عن حكمه»[2]، واحتج لذلك برواية عن جعفر الصادق، وعليها اعتمد الشاه الصفوي “طهماسب” في فرمانه الذي أصدره لتعيين الكركي “وليا فقيها مطلقا” على الدولة الصفوية، وجعله «في الواقع صاحب الاختيار، وإنما الملك هو وكيل للمحقق ونائب عنه في إدارة شؤون البلاد السياسية والإجرائية»[3].

وقد استطاع الخميني الجمع بين الزعامة الدينية والسياسية بعد أن انقلب على الوجه السياسي الظاهر لدعوته وهو بني صدر، فسعى للجمع بين المرجعية الدينية الشيعية والولاية السياسية لكي لا يبقى هناك أية سلطة على الشعب غير السلطة الخمينية، فلا ينافسه عليها أحد، مع نوع من التمويه، بإيهام الناس بأن اختيار الولي الفقيه يكون للأمة بالانتخاب، لأنه هو نفسه لم يكن منتخبا، والانتخاب عنده مبدأ ضروري لتفادي انهيار الدولة الخمينية، مع أن هذا الانتخاب محصور في نخبة المؤمنين بولاية الفقيه الداخلين في سلك الخمينية المستفيدين منها جاها ومالا!

بعد استقرار الدولة الخمينية، ستقوم الحرب الإيرانية العراقية، وستنكشف بسببها معالم فكر ولاية الفقيه الشيعية القائمة على البراغماتية والمنفعية، وأشهر ما انكشف أن الخميني ودولة الملالي كانت تستورد أسلحة أمريكية الصنع عن طريق إسرائيل كما في صحيفة “الشراع” اللبنانية ذات الولاء “السوري” المنشورة في 3 نونبر سنة 1986م، مع أن أمريكا كانت معلنة للحرب على الإرهاب الإيراني باعتبارها راعية له، ولم تكن أمريكا وحدها المتورطة في هذه الفضيحة الريكينية، بل أيضا الاتحاد السوفييتي الذي وعدته إيران بإقامة محطتي تنصت لها في إيران، والصين أكبر مصدر للسلاح، وكوريا الشمالية، وكلها أنظمة شيوعيين كان الملالي يحاربون فكرها في إيران!! ومثلها بريطانيا وفرنسا التي كانت قد بدأت بيع السلاح لإيران منذ سنة 1983م.

كان مجموع ما أنفقته دولة الملالي على السلاح نحو 30 مليار دولار من عائدات نفط الأحواز العربية المحتلة، بالمباشر وبالوساطات الدولية مثل ليبيا وإسرائيل، وأحيانا بوساطة الملياردير السعودي عدنان خاشقجي، ولم يكن كل هذا ليكشف على الأقل في وقتها لولا حادث سقوط طائرة نقل عسكرية في الأراضي التركية الكمالية ضمن خط متعرج بين إسرائيل وطهران، كانت تحصل الإخيرة عبره على السلاح الأمريكي والدعم التقني الإسرائيلي، عرفت الفضيحة حينها باسم إيرانكرت “Irangate”، ويراجع لهذا مقال “Les ventes d’armes” لـ “Christian Boudier” المنشور في مجلة “Politique étrangère”[4] و”نقد ولاية الفقيه” لمحمد مال الله.

مما ينبغي التنبيه عليه أن الشيعة وعلى رأسهم الملالي لا يعتقدون أن بيت المقدس في فلسطين، بل في السماء كما في رواياتهم المشهورة، ولذلك لا يهتمون في باطن أمرهم بالقضية الفلسطينية وإن ادعوا ذلك ظاهرا تقية ومكرا على عادته تأسيا بالخميني، ولهذا من حقنا أن نسأل، ما علاقة هذه الأزمة الظاهرة بين إيران وأمريكا ومؤتمر البحرين؟ وما سرّ هذا التوافق الزمني بينهما؟ ولماذا لم نسمع من إيران شيئا عن صفقة القرن، أو ما سماه كوشنر: فرصة القرن!؟

الذي يهم دولة الملالي حقا هو العالم السني، والعالم العربي، تريد استرجاع السطوة الفارسية، ولذلك جعلوا “الخليج الفارسي” في مقابل “الخليج العربي“، ولن ينسوا أن عمر بن الخطاب هو الذي أسقط دولتهم، ولذلك يعدونه أكبر صنم عرفته البشرية ومدمر الإمبراطورية الفارسية كما يقول المستشرق الإنجليزي إدوارد جرافنفيل براون في “A Literary History of Persia  (1/130)”، فإن الملالي يرون العلاقة بينهم وبين العرب علاقة ذبح فقط، فقد روى محمد بن إبراهيم النعماني[5] المعروف بابن أبي زينب (المتوفى سنة 360 هـ) في كتاب “الغيبة[6] بإسناده عن جعفر الصادق -زعموا- أنه قال: «ما بقي بيننا وبين العرب إلا الذبح وأومأ بيده إلى حلقه»، ونقله عن النعماني محمد باقر المجلسي (المتوفى سنة 1111ه) في بحار الأنوار[7] .

إن من لا يستحضر كل هذه المعالم والمفارقات والمتناقضات في قراءته للعلاقة بين إيران والغرب سيجد نفسه يبتعد كثيرا عن ملامسة الحقائق، فالمسألة الإيرانية معقدة، وتحتاج إلى أدوات للفك والتحليل، بعضها تاريخي وبعضها أيديولوجي وبعضها اجتماعي، وبعضها نفسي أيضا كما في كتاب “التشيع عقيدة دينية أم عقدة نفسية” لطه حامد الديلمي.

مما ينبغي استحضاره على الأقل الآن، أن إيران لا تريد الحرب مع أمريكا، لأنها تعرف أن المسلمين ما فتحوا بلاد فارس والشام إلا بسبب استهلاك الفرس والروم بعضهم بعضا في حروب طويلة، وأمريكا لا تريد حربا لأنها جربت ذلك، وتعرف أنها لم تنتصر قط، ولن تنتصر، وتعرف أن إيران مهمة جدا في حفظ مصالحها في المشرق، وأنها موضع أسرارها الكبرى في المنطقة، ودونالد ترامب رجل بيع وشراء، لا يدخل حروبا بل يمولها، وغرضه جني الأرباح ولو فاوض في ذلك إبليس نفسه، هذا إن لم يكن إبليس من يدير كل هذا بوكلاء عالميين،ولا يعني كل هذا أنهما لا يمكن أن يتقاتلا، فإنهما يمكران ويمكر الله والله خير الماكرين.

 

 

[1] عبد الله أفندي الأصفهاني في “رياض العلماء وحياض الفضلاء” (3/441).

[2] “رسائل المحقق الكركي”(1/142و143).

[3] مرتضى مطهري في “الإسلام وإيران” ص373.

[4] N2;1987;pp.410-414.

[5] نسبة إلى النعمانية التي هي بلدة بين واسط وبغداد، وقيل نسبة إلى النعمان بن المنذر وقيل إلى واد النعمان في طريق الطائف…

[6] ص241، ط1 ،1432-2011 ، تحقيق فارس حسون كريم دار الجوادان.

[7] (ج51 و52/ ص516/ رقم الرواية 101، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، ط1،1439هـ،2008م).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *