نقد فكر الفيلسوف ابن رشد الحفيد نقد موقف ابن رشد في موضوع وجود الله وصفاته وخلقه للعالم

ثالثا: نقد موقف ابن رشد من خلق العالم وأزليته:
والشاهد الثالث مفاده أن ابن رشد ادعى أن العالم العلوي يختلف في مادة تكوينه عن العالم السفلي، فالأول مُكوّن من عنصر الأثير، له خصائص الجوهر السماوي الأزلي، وأما الثاني –أي العالم السفلي- فمُكوّن من العناصر الأرضية الأربعة المعروفة، وهي: الماء، والنار، والتراب، والهواء، وهي أزلية أيضا. وزعمه هذا باطل شرعا وعلما. فأما شرعا فإن الله تعالى نص صراحة في القرآن الكريم، على أن العالم بأسره خُلق من مادة واحدة، في قوله تعالى: (أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون) سورة الأنبياء: 30، وأما علما فقد تبين حديثا أنه يُوجد تشابه كبير بين مكونات العالمين العلوي والسفلي، لأن العالم بأسره أصل مادته واحدة، حسب نظرية الانفجار العظيم، فالشمس مثلا، من مكوناتها: غازا الهيدروجين والهليوم، يمثل فيها الأول 3/4 من كتلتها، وهذان الغازان موجودان في الغلاف الغازي للأرض.
والشاهد الرابع -وهو الأخير- مفاده أن ابن رشد أدعى أن الزمان أزلي بناء على أزلية المادة والحركة، وهذا زعم لا يصح شرعا ولا علما، فأما شرعا فبما أن الله تعالى نص على أن العالم مخلوق، فبالضرورة أن ما ترتب عن هذا الخلق من مادة وزمان وحركة ومكان، يكون مخلوقا أيضا، وأما علما فإن الأبحاث العلمية الحديثة دلت على أن العالم مخلوق، له بداية زمانية مُحددة حدثت عند حدوث الانفجار العظيم، فبدأت لحظة الصفر التي هي لحظة بداية الكون بمادته وزمانه ومكانه علما بأن الزمان هو افتراض ذهني لا وجود له –فيزيائيا- قبل الخلق.
وخامسا إن إنكاره على القائلين بالخلق من عدم -أي من لا شيء-، وقوله بأن ذلك إذا تُؤمل بالحقيقة فهو ليس من شريعة المسلمين، ولا يقوم عليه برهان، فهو قول لا يصح شرعا ولا عقلا ولا علما، فأما شرعا فإننا إذا تأملنا النصوص الشرعية تبين منها أنها نصت على وجود نوعين من الخلق، هما: الخلق من مادة سابقة، الخلق من لا شيء، وهذا أمر سبق أن بيناه ووثقناه.
وأما عقلا فإن تبريراته التي ذكرها في كتابه تلخيص ما بعد الطبيعة ما هي إلا ظنون وتخمينات بناها على مُقدمات ظنية وهمية، لا تصمد أمام العقل الصريح، ولا النقل الصحيح، ولا العلم الصحيح، فالعقل مثلا لا يمنع الخلق من عدم بالنسبة للخالق عز وجل، فهو-أي العقل- إذا حكم باستحالة الإنسان أن يُوجد شيئا من لا شيء، أو أن يُظهر شيئا من عدم؛ فإنه لا يُحيل ذلك في حق الله تعالى، لأنه هو الخالق، وكيف يكون خالقا، ولا يستطيع أن يخلق من شيء ومن غير شيء؟!، فالمخلوق هو الذي يعجز عن الخلق، وأما الخالق فلا يُعجزه شيء، فهو يخلق من شيء، ومن غير شيء، لذا قال سبحانه وتعالى: (أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون) سورة النحل: 17.
وأما علما فإن فكرة الخلق من عدم -أي من لا شيء- أصبحت لها مكانتها في علم الفيزياء الحديثة، وعنها يقول الفيزيائي منصور حسب النبي: (ويا لها من نتيجة مذهلة يتحدث عنها علماء الفيزياء الآن، بعدما كانوا قديما يقولون: إن المادة والطاقة لا تفنى ولا تُستحدث، وهذا صحيح طبعا في طور التسخير-أي بعد الخلق-، أما في طور الخلق الإلهي فهناك قانونان، أحدهما: كن فيكون من جهة، والخلق من عدم من جهة أخرى)، والخلق من عدم لا يحتاج مطلقا إلى زمن سابق لأن الزمان هنا هو افتراض ذهني لا وجود له فيزيائيا عند بداية الخلق، وهو ما يُسمى في الفيزياء الحديثة بأنه (قفزة كمية في الزمكان دون حاجة لمادة أو طاقة).
وقال أيضا: إنه يجب التمييز بين الخلق من عدم بلا زمن، والخلق بالأمر الإلهي المُسخر بقوانين ثابتة، وهو الخلق من مادة سابقة، والخلق الأول لا يتم إلا بـ: كن فيكون، ولا يحتاج لزمان ولا لمادة، ولا لطاقة، فهو خلق من لا شيء في لا زمن، وعندما يُوجد هذا النوع من الخلق يصبح خاضعا للنوع الثاني من الخلق الذي هو في طور التسخير الخاضع – في المكان والزمان- لمقادير محددة ثابتة يدرسها العلماء، وقال الفيزيائي ستيفن هوكنج: (إن لحظة الانفجار العظيم لا تخضع لقوانيننا العادية الفيزيائية، لأنها تُوحي لنا بالخلق من عدم).
وبناء على ما ذكرناه، فمن الذي قوله ليس من شريعة المسلمين ولا برهان عليه، أهم القائلون بإمكانية الخلق من عدم -أي من لا شيء-، أم هم المنكرون للخلق من عدم القائلون بأزلية العالم وأبديته كابن رشد وأصحابه؟! إنه زعم ابن رشد وأصحابه هو الذي ليس من شريعة الإسلام، ولا سند صحيح له من العقل ولا من العلم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *