ونفس وما سواها هبة نجاعي

في أعماق كل منّا عوالم عديدة، بلدانٌ ضخمة، مدن متطورة متناغمة، تحتضنها أجسادنا بحنوّ الأم على صغيرها، فلا تجدُ للصغير حاجةً أو رغبة إلّا سارعت الأم إلى تلبيتها..
وسط تلك العوالم والطرق المتفرّعة التي تبدأ بمهِمّتها ولا تنتهي إلا بعد إنهائها.. وفي مكان ليسَ خفيًّا على الحِس بقدر ما يخفى على النظر، يرقد عالَم غائر ممتلئ بكل أصناف المعجزات، زاخر بأفلاكٍ أبدع من أن تحاكيها يدُ بشر!
في ذلك العالَم الساحر المسمّى “النفس”، يغوص كُنهُ الانسان وجوهره، خفاياه وسرّه، ذائقَتُه وشِعره، سواده وبياضُه، عِكرُه وصفاؤه. وحيثما اجتمع كل ذلك في موضع واحدٍ صار ركيزة الجسد، وقد شبه أحد الكُتّاب النفس والقلب وعلاقتهما يومًا فقال: “القلبُ فينا كالمحرّك، والنفسُ حركَته وزادُه” فما يبرح المحرك مكانَه إلا بالزّاد الذي يوقِد حركتَه، وكذا القلب، لولا النفسُ ما كان لحركته ظهور إلّا بمشيئة الخالق.
ولغموضِ النفس البشرية وسرِّها ظلت لغزًا لأصحابها أنفسِهم؛ للبشر الذين سعَوا طوال قرون جاهِدين لفكّ تلك الشيفرة الإلهية المعقدة، علَى أنّ منهم مَن أنكر -وهو يتحسس إعجازها- أنها من صنع خبير عليم صانِع، فادّعى للجمادات العقل والسَّبق، وللمخلوقات الحكمة والخَلق، فلا منطِقا اتّخَذ، ولا عِلما اعتمَد، ولا هو أنصَف فأتانا ببرهان رَصين، اللهم إلّا تكهّناتْ وافتراضات توهم الجاهل أنها حق يقين! ويعلم الفطِن كما العالِم أنها محض خلعة زيّنتها أحقاد دفينة ما لها غايةٌ إلا الغِواية!
بغضّ النظر عن تقوّلات المتقوّلين، أو ادعاءات المدّعين، تبقى النفس مما سخّرَ لنا الخالق التدبُّرَ فيه والشكر علَيه، وهيَ -أي النفس- مثل كل عالَم من العوالِم فينا، يجبُ استغلالُها بحكمة، وتجنب كل ما يضرّها، فهي أمانة تحملناها ووجب الوفاء بعهدِها، وحَملِها المحملَ الصحيح الذي خُلقت لأجله، ودرء ما يطرأ عليها من طارئ يفتك بها أو يودي بها للتهلكة.
انطلاقًا من ذلك، ولأجل غاية الوفاء وفضيلة الشكر، وجب علينا تمييز الصواب النافع مِن الخطأ الضار؛ قال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا}.
فهُنا الدليل الربّاني من موجِد النفس وعالِم خباياها، إن أنت أردتَ الفَلاح فمفتاحُ فلاحِك النفس! إن عرفتها على ربّها فلَحت، وإن زكيتها بالطاعة غنِمت، وإن أشبَعتها بالتقوى كسَبت؛ فتلك تزكية النفس، وأما ترويدها على الآثام، وطاعة الشيطان، واتباع خطوات الغواية والعصيان، فذلك ما دسّاها ودنّسها وألقى بها في جرفٍ هاوٍ من جهنم.
ولن تصل النفسُ إلى مرتبة استشعار الصواب وتنزيهه عن الخطأ بما يسمى الفطنة إلا بمراحل يختلف عددها باختلاف الناس وشخصياتِهم، فبِقدر ما كان المرء متمكنا من نفسه متعلّمًا مطلِعَا، ومجربًا خبيرًا خبرة تنوع، بقدر ما كانت نفسه مكتسبة تلك الصفة النبيلة التي تمثل كنزَا يطلبه الكثيرون.
ورغم ذلك، فإن تعميم الرأي من المغالطات، ويخطئ من يظن أنه كلما زاد السّن ارتفعت درجة الخبرة والتمكن، فيسمّى الشيخُ عندها “فطِنًا” ويبقى الشاب في مرحلة يسمونها “المراهقة المشاكسة”.
ولو أخذنا بهذا الرأي لما رأينا عبر التاريخ من يقضي بِعَكسِه، ولما سمّينا أبا تمام “شاعرًا” وهو ابن 15 سنة أو نحوها، ولا حافظا وقد كان من فصحاء عهده، درس اللغة والأدب ونهل من أنهار العلوم وهو شاب، وعبد الرحمن الناصر، الذي حكم الأندلس وقضى على الاضطرابات فيها وهو ابن 22 سنة! والقانوني، ومحمد الفاتح، وقبلهم العديد من عظماء التاريخ من الصحابة كزيد ابن ثابت، وسعد ابن ابي الوقاص صاحب أول سهم في الإسلام، وغيرهم مما لا تتسع له مائة صفحة بعرضها!
لقد كان هؤلاء -وما يزالون- في أذهان الناس نوابغ تميزوا في شتى مجالات الحياة، وفطنوا إلى كُنه الأشياء دون ظواهرها، تألقوا بأسلوبهم في زمن الكتب والعلم والدين، وعهد الشيوخ والعلماء والفصحاء، وكان في أمثالهم وأمثال من قبلَهم من النوابغ قدوة يتأسى بها الناس إلى يومنا هذا.. لم يكُن أولئك ملائكة معصومين، ولا أنبياء مرسَلين، بل بشرًا أجادوا ترويض أنفسهم على الاستقامة، وعلّموها رغم حداثة سنّهم، أنه لا عيشَ إلا عيشُ الآخرة!
{وفي أنفسكم أفلا تبصرون}.
بلى، إنه سموّ النفس إلى مراتب الحكمة، إلى غاية النباهة والفطنة، إلى الرقي الشامخ!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *