إن ما أعلنت عنه وزارة الداخلية يوم الثلاثاء الماضي (28 محرم) من أخبار خلية مسلحة يترأسها عضو من تنظيم “القاعدة في المغرب الإسلامي”؛ يدفعنا إلى التساؤل عن عدة أمور:
ما هي الأسباب الحقيقية التي مكنت من تنامي مد هذا التنظيم إلى درجة تسلله إلى بعض المناطق الجنوبية وإخفاء أسلحة خطيرة بمهارة كبيرة؟
ما هي الأيدي التي تحرك أفراد هذا التنظيم لاختراق الأمن المغربي، وتعينهم ماديا وتؤطرهم دينيا؟
ما مدى ارتباط هذا الحدث بتطورات قضية الصحراء والعلاقة المتردية بين المغرب والجزائر؟
لا سيما إذا ما ربطنا بين ما شاهدناه من استهداف الفتّانين لرجال الأمن في مخيم (إكديم إيزيك)، وما قيل عن أفراد هذه الخلية من أنهم كانوا يستهدفون –أيضا- رجال الأمن خاصة؟
هذه تساؤلات تحتاج إلى جواب شافي يقوم على معطيات دقيقة وتحليل عميق ..
لكن يهمني في هذه المقالة أن أجيب على سؤال آخر:
ما هي المسوغات الشرعية التي جعلت هؤلاء المغرر بهم يستبيحون دم رجل الأمن؟
.. إن هؤلاء الذين حملوا السلاح وبيّتوا للخروج على الأمة يتصفون بصفتين أساسيتين:
الأولى: أنهم يحملون فكر الخوارج الذين استباح أجدادهم الخروج على الصحابة رضي الله عنهم.
الثانية: أنهم ضحايا تغرير وتلبيس من طرف متعالمين لا يفقهون في دينهم شيئا، كما وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم: “يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم”.
وفي توضيح الصفة الأولى نؤكد بأن جميع فرق الخوارج تعتقد التكفير الذي يسوغون به القتل والتخريب، وإنما اختلفوا في من يقع عليه هذا التكفير؛ فذهب بعضهم إلى أنه يقع على كل من أتى بكبيرة من موافقيهم ومخالفيهم، وقال بعضهم بل هو في المخالفين دون الموافقين.
ومنهم من كفّر من لم يلحق بمعسكرهم، وإن وافقهم في المذهب ، ومنهم من خص بالكفر الحاكم وحاشيته دون عامة المسلمين ، ومنهم من قال إذا كفر الإمام كفرت رعيته .
وإذا ثبت ما قيل من أن هؤلاء استهدفوا رجال الأمن؛ فهذا دليل على أنهم من الصنف الرابع الذي يُكفّر الحاكم وحاشيته.
وأما صفتهم الثانية فتجعلهم ألعوبة في يد المفسدين؛ وعلى رأسهم المعادون لديننا ووحدتنا الترابية؛ وقد استفاضت الأخبار بقيام علاقة بين تنظيم القاعدة وبعض زعماء (البوليساريو) ..
كما أنهم ضحايا أمراء الخوارج المعاصرين؛ الذين ينشرون توجيهاتهم المتعالمة المفسدة عبر الشبكة العنكبوتية والمنشورات السرية ..
والحقيقة أن وجود هؤلاء الضحايا واستمرار خروجهم أمر لا يمكن تفاديه بشكل نهائي؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم في وصفهم: “كلما خرج قرن قطع حتى يخرج في عِراضهم الدجال”( ).
ولكن يمكن في المقابل؛ تقليل وجودهم وتقليص حجم الآثار المدمرة لأفعالهم ..
وهذا يستدعي وضع خطة شاملة تجمع بين آلية البيان الشرعي، وآلية الدعوة لتبليغه، وآلية الحوار والمناقشة للإقناع به وكشف الشبه المضلة، وفي الوقت نفسه تستصحب آلية اليقظة الأمنية التي ينبغي أن تركز على اجتثاث منابع هذا الفكر وتتبع المنظرين له ..
وإلا نفعل؛ فسنترك آلاف الشباب المحبين للدين -والذين تزداد أعدادهم يوما بعد يوم-، أو أولئك الذين يعانون من الهشاشة المادية؛ عرضة لشبهات فكر التكفير ودعاة ممارسات التفجير والتدمير، وقد يتسع الخرق على الراقع؛ فلا يتمكن رجال الأمن من وقاية الناس من كل مخطط أثيم؛ على حد قول الشاعر:
لو كان سهما واحدا لاتقيته ** ولكنه سهم وثان وثالث
ومعلوم أن المواجهات القتالية تعتريها حالتا الانتصار والانهزام، ولا يمكن أن تكون انتصارا في كل الأحوال؛ فتحتاج إلى دعمها بمواجهة علمية فكرية يقودها العلماء وتشارك فيها الهيئات والجمعيات الدينية الرسمية وغيرها، تحول دون تسلل فلول الأفكار المضلة والدعوات الفتانة، وتكشف شبهات الخوارج بحجج القرآن والسنة وفقه السلف والأئمة ..
وفي محاجة هؤلاء المغرر بهم في استهدافهم رجال الأمن أقول:
روى الإمام البخاري في الباب الأول من كتاب الديات من جامعه الصحيح؛ عن المقداد بن عمرو الكندي -وكان ممن شهد بدرا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم- أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: “أرأيت إن لقيت رجلا من الكفار فاقتتلنا، فضرب إحدى يدي بالسيف فقطعها، ثم لاذ مني بشجرة فقال: أسلمت لله! أقتله يا رسول الله بعد أن قالها؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا تقتله”.
فقال: يا رسول الله إنه قطع إحدى يدي ثم قال ذلك بعد ما قطعها؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا تقتله؛ فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله، وإنك بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال”.
وفي باب قول الله تعالى: {ومن أحياها} روى الإمام البخاري عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى الحرقة من جهينة قال فصبحنا القوم فهزمناهم، قال: ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلا منهم، فلما غشيناه قال: لا إله إلا الله، قال فكف عنه الأنصاري فطعنته برمحي حتى قتلته، قال: فلما قدمنا بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لي: “يا أسامة أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله؟!”
قال: قلت يا رسول الله إنما كان متعوذا!
قال: “أقتلته بعدما قال لا إله إلا الله؟!”
قال: فما زال يكررها علي حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم”.
وفي رواية الإمام مسلم عن جندب بن عبد الله البجلى أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال له: “لِمَ قتلته؟!”.
قال: يا رسول الله أوْجع في المسلمين وقتل فلانا وفلانا – وسمى له نفرا – وإني حملت عليه، فلما رأى السيف قال لا إله إلا الله.
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: “أقتلته؟” قال: نعم.
قال: “فكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟”
قال: يا رسول الله استغفر لي.
قال: “وكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟”
قال: فجعل لا يزيده على أن يقول: “كيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟”
ففي الحديث الأول: المستهدَف رجل يحارب مع المشركين، قطع يد صحابي بدري، وفي حديث أسامة المستهدَف رجل أوْجع في المسلمين وقتل عددا كبيرا منهم، كل ذلك في ساحة جهاد شرعي تحت إمرة النبي صلى الله عليه وسلم؛ ومع ذلك أنكر النبي صلى الله عليه وسلم القتل إنكارا شديدا ..
ومن هذا الباب ما أخرجه ابن ماجه عن عمران بن الحصين رضي الله عنه قال: أتى نافع بن الأزرق –زعيم الخوارج- وأصحابه فقالوا: هلكت يا عمران! قال: ما هلكت.
قالوا: بلى، قال: ما الذي أهلكني؟!
قالوا: قال الله: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله} قال: قد قاتلناهم حتى نفيناهم فكان الدين كله لله، إن شئتم حدثتكم حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قالوا: وأنت سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
قال: نعم؛ شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد بعث جيشا من المسلمين إلى المشركين، فلما لقوهم قاتلوهم قتالا شديدا فمنحوهم أكتافهم فحمل رجل من لحمتي على رجل من المشركين بالرمح فلما غشيه قال: أشهد أن لا إله إلا الله إني مسلم، فطعنه فقتله، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله هلكت.
قال: “وما الذي صنعت؟” مرة أو مرتين.
فأخبره بالذي صنع، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: “فهلا شققت عن بطنه فعلمت ما في قلبه؟” قال: يا رسول الله لو شققت بطنه لكنت أعلم ما في قلبه.
قال: فلا أنت قبلت ما تكلم به ولا أنت تعلم ما في قلبه.
قال: فسكت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يلبث إلا يسيرا حتى مات، فدفنّاه فأصبح على ظهر الأرض، فقالوا لعل عدوا نبشه فدفناه ثم أمرنا غلماننا يحرسونه، فأصبح على ظهر الأرض، فقلنا لعل الغلمان نعسوا فدفناه ثم حرسناه بأنفسنا فأصبح على ظهر الأرض فألقيناه في بعض تلك الشعاب ..، فأُخبِرَ النبي صلى الله عليه وسلم وقال: “إن الأرض لتقبل من هو شر منه، ولكن الله أحب أن يريكم تعظيم حرمة لا إله إلا الله”.
فهذا ليس مجرد رجل أمن في دولة مسلمة يشتبه أمرها على هؤلاء الجهال؛ بل جندي في معسكر كفر لا شبهة فيه، يواجه بالقتال الشديد رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة رضي الله عنهم، ومع ذلك لم يرض الله قتله ..
ومعلوم أن رجال الأمن مواطنون من أهل الإسلام والقبلة والشهادة؛ فبأي وجه شرعي تستباح دماؤهم؟!!
والجواب: أن هؤلاء يستحلون دماءهم بتأويل بدعي لآيتي الحكم، وهو ما سنبينه في الحلقة التالية بإذن الله ..