الشك وما حوله الدكتور محمد أبو نجيب

في جلسة مسائية ليلية، أخوية حميمية، علمية ودينية وفكرية. استغرقت ست ساعات، من التاسعة إلى الثالثة بعد منتصف الليل. طرح فيها من ضمن ما طرح للنقاش والتحاور: موضوع الشك وما حوله بهذه الصيغة: هل هو فضيلة؟ أم هو رذيلة؟ وبعبارة أخرى بعيدة عن صيغة ذات حمولة أخلاقية ودينية: هل هو أداة إيجابية؟ أم هو أداة سلبية للوصول أو لعدم الوصول إلى اليقين بخصوص ما هو مبهم أو غامض في كل المجالات المادية والمعنوية؟

فجاءت التدخلات متعاقبة ومتنوعة، دون الانتهاء بصورة واضحة إلى إجابة أو إلى إجابات حاسمة متفق عليها من طرف المشاركين في النقاش المحتدم! وبما أن الموضوع من اقتراحي، فقد ألزمت نفسي بتناوله في هذه المقالة التي آمل أن تفتح الباب أمام مزيد من تعميق البحث في الأسئلة، وفي النتائج التي سوف تتمخض عنها من وجهة نظري الخاصة.
نتساءل هنا عن الشك ما هو؟ وهل له مرادفات؟ وهل هو طبيعي أم هو مكتسب؟ وهل له دور في التعلم والتعليم؟ ثم متى نشك؟ وكيف نشك؟ وهل شكنا مقيد أم هو مطلق؟ ظرفي طارئ أم إنه دائم لم ينقطع الشاك عن ممارسته؟ وهل يشكل عند صاحبه حالة سوية؟ أم إنه قد يصبح نوعا ما من الأمراض النفسية أو العقلية؟ وهل نتصور وجود أناس لا يشكون؟
وهل يقدح اعتماده من طرف العلماء في ما يفترض أن يتصفوا به من عدالة ومن مروءة؟ أم إنه من جملة الوسائل التي يتذرعون بها للدفاع عن قناعاتهم من جهة؟ ولإرساء هذه القناعات على دعائم من المنقول والمعقول من جهة ثانية؟
فكوننا نشك، معناه أننا غير متأكدين من أمر ما، أو غير واثقين بصحته وبحقيقته. والأمر هنا هو الشيء في الجملة، أي كل “ما يصح أن يعلم ويخبر عنه. وقيل: كلمة تدل على كل ما هو موجود وكل ما يمكن تصوره. سواء كان حسيا أو معنويا، حقيقيا أم ذهنيا”. في شتى الميادين وفي مختلف الظروف والمناسبات.
إن الشك إذن “شعور بعدم الثقة، أو هو قلتها”. وقد نقول: “إنه سوء ظن” بناء على حال الشاك وموقفه من المشكوك فيه. ثم إنه “تردد بين حكمين نقيضين، لا يرجح العقل أحدهما على الآخر”. مثله مثل الإدراك الحسي الذي يحملنا حملا في أحايين متعددة على القبول بنقيض ما اعتقدناه هو الصواب، نظير السراب الذي {يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً} بحيث يتحول اليقين عنده إلى لا شيء. وبين الشيء واللاشيء بون شاسع من السهل تصوره كتصورنا للمعدوم وللموجود في الواقع. وكأنه تعالى يؤكد لنا محدودية قدراتنا الإدراكية، ونسبية اكتسابنا للمعارف. في إشارة إلى ضعفنا واستحالة اتصافنا بالكمال الذي لا يتصف به غيره عز وجل.
فلآلاف المرات يحضر الشك واليقين بين شخصين، ولم لا بين أشخاص متى تعلق الأمر بالمرئيات والمسموعات والمشمومات كمجرد مثال. فقد تقع أبصارهم على مرئي من بعيد، فيختلفون في تحديد حقيقته. بحيث إن بعضهم يتمسك بما اعتقده وتيقن منه. إنه عنده خروف، وعند آخر كلب ضخم. فيتأكد لنا كيف أن الطرفين يتقاسمان الشك واليقين. فالأول متيقن مما ادعاه، وشاك في ما ادعاه الثاني! بينما تيقن الثاني مما ادعاه، وشك في ما ادعاه الأول! مما يعني أن الشك عندهما نتيجة لخطأ حاسة البصر عند أحد الطرفين. ونفس الحاسة قد تحول شكه إلى يقين، وفي الوقت ذاته تؤكد يقين الطرف المصيب!
وما قيل عن المرئيات يقال عن المسموعات والمشمومات. وما قيل عن المدركات الحسية، يقال كذلك عن المدركات العقلية. فإن وقع الالتباس في المحسوسات، فإن وقوعه في المعقولات لا يمكن غير القبول به. وإن صححت الحواس ما تقع فيه من أخطاء. فعلى العقول أن تصحح كذلك ما تقع فيه من مجانبة الصواب.
أما مرادفات الشك، فكل كلمة تفيد عدم اليقين والتأكد، كالظن، والريب، والارتياب، قال تعالى: {إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً}، يعني الاعتقاد بدون يقين. وغياب اليقين معناه الشك من وجه، وتوهم من وجه آخر. وقد يكون الظن اعتقادا راجحا مع احتمال النقيض، ويستعمل في اليقين والشك. ونقف على الريب في قوله سبحانه: {وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ}! ونفس المعنى يؤديه الارتياب. نعني غياب اليقين لدى المرتاب كشاك أو كمتشكك، بالإمكان أن يعد ضمن الارتيابيين أو اللاأدريين الذين يجعلون من الشك مذهبا لهم لا منهجا معتمدا للوصول إلى الحق أو إلى اليقين المؤكد ببراهين أو بأدلة قاطعة.
ثم نطرح هنا تساؤلات ذات امتداد أو ذات صلة بمفهوم الشك فنقول: هل الاحتراز والاحتراس والحذر والتوقي والاحتياط والتوخي والتحفظ والتيقظ من مرادفاته؟ أم إنها ممهدة له؟ أم إنها من نتائجه؟ ثم نتساءل: لماذا نحترس ونشك ونحتاط، إلى آخره؟ فهل نمارس كل هذه الأفعال لأننا نشك؟ أو نشك لأننا نمارسها؟
ثم نتساءل: هل الشك طبيعي أم إنه مكتسب؟ مع العلم بأن الطبيعي هنا هو “ما يتميز به الإنسان من صفات فطرية، والتي هي ضد الصفات المكتسبة”؟
وبصيغة أخرى: هل يولد الإنسان وهو يحمل معه بذرة من بذور الشك، وكأنها غريزة من غرائزه التي هي “نشاط النفس أو سلوك يعتمد على الوراثة”؟ وقد نقول: إنها طبيعة أو سجية كغريزة الأمومة، أو كغريزة البقاء. وإن نحن رفضنا أن يكون الشك من جملة الغرائز الفطرية، طرقنا باب الاكتساب الذي فتحه لنا سيد الناس على مصراعيه عندما قال: “كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه”!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *