الأجوبة الشافية عن الأسئلة المصيرية -11- ذ. عبد اللطيف الخيالي

لقد ضحى الملايين من المسلمين بحياتهم لمحاربة الطغاة والمنافقين الذين يقفون في وجه الحق، ولم يحاربوا لنزعة قبلية أو عصبية أو أطماع مادية؛ لذلك لم يسجل التاريخ أنهم ارتكبوا مجزرة في أعز انتصاراتهم على أعدائهم الذين ينفثون كل سمومهم في أبناء الإسلام عندما يتمكنوا منهم، وهذا يعد دليلا واضحا على حسن سريرتهم وأن جهادهم كان خالصا لله.
نعم، ما جاهد المسلمون إلا لينشروا العدل والأمن والسلام في مشارق الأرض ومغاربها، وهو ما تحقق بفضل الله وعاش المسلمون مع غيرهم عصورا ذهبية في الأندلس وغيرها من البلدان التي دخلها الإسلام. كما أن هذه الشعوب ما كانت لتعتنق الدين الجديد وتجاهد تحت رايته وتضحي بالغالي والنفيس من أجله لو أنها اكتشفت أن أهدافه استعمارية، وما كان ذلك ليخفى عليها مئات السنين، بل لو كان الأمر كذلك لحاربته حتى تطرد الداعين إليه من أرضها كما حدث مع المستعمر في جميع بقاع الأرض، بل اعتنقته وجاهدت تحت رايته عن قناعة وإعجاب لما رأت من مزاياه وأخلاق أهله.
تقول المستشرقة “زيجريد”: لقد كان أتباع الملل الأخرى – وبطبيعة الحال من النصارى واليهود – هم الذين سعوا لاعتناق الإسلام والأخذ بحضارة الفاتحين، وقد ألحوا في ذلك شغفا وافتنانا، أكثر مما أحب العرب أنفسهم، فاتخذوا أسماء عربية وثيابا عربية، وعادات عربية، وتقاليد عربية، واللسان العربي… لقد كانت الروعة الكامنة في أسلوب الحياة العربية، والتمدن العربي، والسمو والمروءة، والجمال – وباختصار: السحر الأصيل الذي تتميز به الحضارة العربية، بغض النظر عن الكرم العربي والتسامح وسماحة النفس – كانت هذه كلها قوة جذب لا تقاوم1.
إن أعداء الإنسانية هذا منهجهم: عندما لا يقوون على الصمود أمام خصومهم، يكلون لهم التهم ويقبحون صورتهم، وهو ما فعله منكروا النبوة مع جميع الأنبياء والرسل. أما ما تنقله بعض وسائل الإعلام من أحداث إرهابية يقوم بها بعض الأفراد أو الجماعات، ثم تنسبها إلى الإسلام والمسلمين فهو عين الباطل؛ لأن كل إنسان يتحمل تبعات أخطائه كما هو متعارف عليه شرعا وقانونا.
إن هذه القاعدة أقرتها شريعة الله، حيث قال سبحانه:
“قال معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده إنا إذا لظالمون” يوسف 79.
الإسلام له مبادئه و أحكامه المسطرة في مراجعه، وقد نزلت على أرض الواقع، فحققت الأخوة والمحبة بين الناس على اختلاف أديانهم بشهادة التاريخ، وعلماء المسلمين من واجبهم الاجتهاد والإفتاء في القضايا المعاصرة، عند اجتماعهم من جميع بلاد المسلمين واتفاق أغلبهم (عندما يتعلق الأمر بالقضايا الكبرى للإنسانية).
يقول سبحانه وتعالى:
﴿لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا اليهم إن الله يحب المقسطين إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون) [الممتحنة 8-9].
لقد دعا الإسلام أتباعه إلى معاملة من لا يحارب الدين بالبر والقسط وشجع على ذلك، في حين وقف في وجه الطغاة والظالمين ولو كانوا من أبناء جلدته، الذين يحرفون الدين، ويتلاعبون به ويسعون في الأرض فسادا من أجل استعباد الناس وخدمة مصالحهم الشخصية ولو على حساب الملايين من بني البشر.
بل حتى في ساعات الحرب نجد الإسلام يحبذ السلم، يقول سبحانه: “وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله” الأنفال 62.
لقد حرم الإسلام قتل الأبرياء وشنع في العقوبة على ذلك، فقال سبحانه: “من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ” المائدة 34.
من خلال تعاليم الإسلام يمكننا أن نخلص إلى القاعدة الذهبية التالية: “الإنسان في الإسلام أهم من جميع كنوز الدنيا”. فلتكن شعارنا.
المطلب الثاني: هل المسلمون مجرد ناقلين للتراث؟
من بين التهم التي تلفق للإسلام، أنه دين الجهل والتخلف، وأن المسلمين مجرد نقلة للتراث القديم! للرد على هذا الافتراء أقول: إن التاريخ يشهد وكذلك المنصفون من علماء الغرب يشهدون في كتبهم – ألفريد جيوم “تراث الإسلام”، جوستاف لوبون “حضارة العرب”، زيجريد هونكه “شمس الله تسطع على الغرب”…- أن المسلمين أبدعوا في جميع جوانب العلوم، ولولا دخولهم إلى أوربا لعاشت ـ ربما إلى يومنا هذا ـ عصر الظلمات ، وهي شهادة لأحد الغربيين سأذكرها لاحقا.
نعود مرة أخرى إلى السيدة زجريد التي تقول: إن هذا الازدهار الراقي لفن المعمار في قرطبة وطليطلة وغرناطة وإشبيلية، قد طورته الطاقة الخلاقة لذلك الشعب العربي، فأتت بأفضل التمار في جميع حقول الأندلس. ولا ينسحب هذا على الحقول الزراعية فحسب،… وإنما ينسحب كذلك على التربة القاحلة الجدباء، والهضاب الصلدة العارية من الزرع، فقد استصلحها العرب بفضل خبرتهم الطويلة…2.
وتقول أيضا: وكان في قرطبة وحدها أكثر من عشرين مكتبة عامة… والجدير بالذكر أن الكتب آنذاك كانت نادرة الوجود شمالي جبال البرنس، حتى إنها كانت في الأديرة تثبت بالسلاسل، بينما ذهب رجال الدين النصارى آنذاك إلى أن طلب العلم والمعرفة بعد ما أنزل الإنجيل تجديف وكفر بالله… أما ذيوع صيت جامعات إسبانيا العربية وعلو كعبها في المعارف، فقد جذب إليها صفوة الباحثين المبرزين في العلوم والفنون والمعارف والآداب… وتكشف الترجمات اللاتينية المتأخرة لمؤلفات بعضهم، والتي أنجزتها مدرسة طليطلة للترجمة، الشهيرة على الصعيد العالمي ذلك الثراء الفكري العريض، المرتبط بأسماء الأعلام العالميين في مختلف الميادين، ومنهم أبو القاسم ابن زهر وبن رشد وابن طفيل وأبو مروان ابن الخطيب البطرجي وابن البيطار… وغيرهم من العلماء الذين أثروا الغرب الذي أعوزه آنذاك مثل هؤلاء العلماء ونفخوا فيه من روحهم، وأمدوه بطاقات دفعته قدما3.
تضيف في موضع آخر من مؤلفها: على أن ما كان يبدو مستحيل الوقوع، وقع بالفعل فيما بعد كما لو كان ذلك يقظة الغرب في سكون، من سبات عميق بلغ عدة قرون4.
واقرأ معي هذه الشهادة العظيمة التي انبثقت من مكنون هذه المرأة التي تقول: تلك هي المأثرة الخالدة التي يدين العالم للعرب بالفضل فيها، وللعرب فحسب: فلا الروم ولا بيزنطيون ولا فرق النصارى… سعوا إلى إنقاذ حضارة إغريقية هلينية، كان بعضها قد أبيد إبادة تامة على يد متحمسي النصارى الناشطين في مهاجمة العلوم، وكان بعضها الآخر قد أمسى فريسة للإهمال، موشكا على الاندثار إلى الأبد والزوال… فالعرب هم الذين نقبوا عن تلك الكنوز وبحثوا عنها واستخرجوها من بطون الأبنية المنهارة أو الآيلة للسقوط بعد أن لبثت قرونا حبيسة أبنية لا علاقة لها بالحضارة5.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
– المرجع السابق، ص: 41-42
2- المرجع السابق، ص: 54- 55
3- المرجع نفسه، ص: 55- 56
4- المرجع نفسه، ص: 57
5- المرجع السابق، ص: 78- 79

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *