إن الله خالق الأرضوخالق الناس هو الذي مكّن لهذا الجنس البشري في الأرض، وهو الذي أودع الأرض هذه الخصائص والموافقات الكثيرة التي تسمح بحياة هذا الجنس وتقوته، وتعينه بما فيها من أسباب الرزق والمعايش، قال تعالى: ﴿وَلَقَدۡ مَكَّنَّٰكُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَجَعَلۡنَا لَكُمۡ فِيهَا مَعَٰيِشَۗ قَلِيلا مَّا تَشۡكُرُونَ﴾[الأعراف:10].
هو الذي جعلها مقراً صالحاً لنشأته بجوها وتركيبها وحجمها وبُعدها عن الشمس والقمر،ودورتها حول الشمس، وميلها إلى محورها، وسرعة دورتها إلى آخر هذه الموافقات التي تسمح بحياة هذا الجنس البشري عليها، وهو الذي أودع هذه الأرض من الأقوات والأرزاق ومن القوى والطاقات ما يسمح بنشأة هذا الجنس وحياته، وبنمو هذه الحياة ورقيها معاً، وهو الذي جعل هذا الجنس سيد مخلوقات هذه الأرض قادراً على تطويعها واستخدامها بما أودعه الله من خصائص واستعدادات للتعرف على بعض نواميس هذا الكون وتسخيرها في حاجته.
ولولا تمكين الله للإنسان في الأرض بهذا وذلك، لما استطاع هذا المخلوق الضعيف القوي أن يقهر الطبيعة، كما يعبر أهل الجاهلية قديماً وحديثاً، ولا كان بقوته الذاتية قادراً على مواجهة القوى الكونية الهائلة الساحقة.
إن التصورات الجاهلية الإغريقية والرومانية هي التي تطبع تصورات الجاهلية، وهي التي تصور الكون عدواً للإنسان، وتصور القوى الكونية مضادة لوجوده وحركته، وتصور الإنسان في معركة مع هذه القوى -بجهده وحده-وتصور كل تعرف إلى النواميس الكونية وكل تسخير لها -قهراً للطبيعة- في المعركة بينها وبين الجنس الإنساني.
إنها تصورات سخيفة، فوق أنها تصورات خبيثة، لو كانت النواميس الكونية مضادة للإنسان، عدوة له وتتربص به وتعاكس اتجاهه، وليس وراءها إدارة مدبرة كما يزعمون، ما نشأ هذا الإنسان أصلاً وإلا فكيف ينشأ؟ وكيف ينشأ في كون معاد بلا إدارة وراءه؟ ولما استطاع المضي في الحياة على فَرَض أنه وُجد وإلا فكيف يمضي والقوى الكونية الهائلة تعاكس اتجاهه؟ وهي بزعمهم التي تتصرف بنفسها ولا سلطان وراء سلطانها؟
إن التصور الإسلامي وحده هو الذي يمضي وراء هذه الجزئيات ليربطها كلها بأصل شامل متناسق. وإن الله هو الذي خلق الكون، وقد اقتضت مشيئته وحكمته أن يجعل طبيعة هذا الكون بحيث تسمح بنشأة هذا الإنسان. وأودع الإنسان من الاستعدادات ما يسمح له بالتعرف إلى بعض نواميس الكون واستخدامها في حاجته.
وهذا التناسق الملحوظ هو الجدير بصنعة الله الذي أحسن كل شيء خلقه ولم يجعل خلائقه متعاكسة متعادية متدابرة.
وفي ظل هذا التصور يعيش الإنسان في كون مأنوس صديق، وفي رعاية قوة حكيمة مدبرة، يعيش مطمئن القلب، مشروح النفس، ثابت الخطو ينهض بأمور عمارة وخلافة الأرض في اطمئنان الواثق بأنه مُعان على الخلافة، ويتعامل مع الكون بروح المودة والصداقة، ويشكر الله كلما اهتدى إلى سرٍ من أسرار الوجود، وكلما تعرف إلى قانون من قوانينه التي تعينه في خلافة الأرض، وتُيسر له قدراً جديداً من الرقي والراحة والمتاع. إن هذا التصور لا يكفه عن الحركة لاستطلاع أسرار الوجود والتعرف إلى نواميسه، على العكس، هو يشجعه ويملأ قلبه ثقة وطمأنينة، إنه يتحرك في مواجهة كون صديق لايبخل عليه بأسراره ولا يمنع عنه مدده وعونه وليس في مواجهة كون عدو يتربص به ويعاكس اتجاهاته ويسحق أحلامه. بل هذا الكون وهذه الأرض مسخرة عند الله عز وجل للإنسان.
قال تعالى: ﴿هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي ٱلۡأَرۡضِ جَمِيعاً ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰٓ إِلَى ٱلسَّمَآءِ فَسَوَّىٰهُنَّ سَبۡعَ سَمَٰوَٰت وَهُوَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيم﴾ [البقرة:29]، وقال تعالى: ﴿ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلۡأَرۡضَ فِرَٰشا﴾ [البقرة:22]، ومن الآيات التي تدل على تسخير الكون للإنسان قوله تعالى: ﴿ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلۡأَرۡضَ مَهۡدا﴾ [طه:53]، وقوله تعالى: ﴿ٱللَّهُ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلۡأَرۡضَ قَرَارا﴾ [غافر: 64].
إن الإنسان هو ابن هذه الأرض، وهو ابن هذا الكون، لقد أنشأه الله في هذه الأرض ومكنه فيها، وجعل له فيها أرزاقاً ومعايش، ويسر له المعرفة التي تسلمه مفاتيحها، وخلق نواميس موافقة لوجود هذا الإنسان تساعده حتى يتعرف إليها على بصيرة وتُيسر له حياته.
إن الله يُريد من الإنسان أن يدرس حياته دائماً بما تشمل عليه من إمكانات القوة ومواطن النعمة، فيربطها بالله المصدر لكل قوة ونعمة، ليدفعه ذلك إلى الشعور بالمسؤولية أمامه فيما يستخدم فيه القوة أو يستعمل فيه النعمة، وذلك هو مفهوم الشكر العملي. المفهوم الذي يريد الله من الإنسان أن يجعله الطابع العام لحركة حياته، والسّمة البارزة لشخصيته، وذلك بأن يحوّل كل ما أعطاه الله إلى السبيل الذي يتحرّك فيه أمر الله ونهيه، لأنه لا يملك ذلك كله، فلا حرية له أن يتصرف فيه تبعاً لمزاجه وهواه، بل يعتبر ذلك منه تمرُّداً على الله وضاداً لحالة الشكر له، ولن يتحقق ذلك إلا بالوعي الدائم لارتباط الوجود الإنساني في عناصره وخصائصه بالله، والابتعاد عن الانغلاق الفكري والروحي داخل الذات الذي يوحي إليه بالإمكانات الذاتية التي يستمدها من وجوده بعيداً عن الله.
قال تعالى: ﴿وَلَقَدۡ مَكَّنَّٰكُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ﴾؛ في ما أودعه من عناصر القوّة في الإنسان وما سخرّه له من مخلوقاته.
وقال سبحانه: ﴿وَجَعَلۡنَا لَكُمۡ فِيهَا مَعَٰيِشَۗ﴾؛ في ماتأكلون وتشربون وتلبسون وتستمعون، لتشكروا الله على ذلك وتنطلقوا به في طريق طاعته.
وقال تعالى: ﴿قَلِيلا مَّا تَشۡكُرُونَ﴾؛ تلك هي النتيجة الطبيعية للغفلة عن معنى الحياة المسؤولة في صلتها بالله، لأن قضية الشكر هي قضية وعي وانفتاح وإيمان، لتعرف أن الله لم يخلقك عبثاً، ولم يخلق الحياة بدون هدف، ولم يترك الإنسان بدون نظام.
والشكر: هو صرف العبد كل ما أنعم الله به عليه إلى ما خلق لأجله، من نعمه ظاهرة باطنة في النفس والمال، فيصرف ذلك كله إلى عبادة ربه بما يليق بكل جارحة على الوجه الأكمل، وإذا ما فعل ذلك كان قد أظهر نعم الله عليه وأدى واجب شكرها.
ويعتبر الشكر من أجلّ الأخلاق السلوكية الإيمانية التي على المؤمن أن يتحلى بها في كل أحواله لما فيه من الاعتراف بالنعم لمسديها.
ولقد كانت عناية القرآن الكريم بهذا الخلق عظيمة كعظم مكانته في الأخلاق، فقد ورد ذكره في نحو من سبعين آية آمراً به، وحثاً عليه، وثناء على أهله ووعداً لهم بحسن جزائه، ونهياً عن ضده مما يدل على أمر هذا الخلق عظيم الشأن. ومن الأوامر القرآنية للتحلي به كثيرة منها قوله تعالى:
﴿فَٱذۡكُرُونِيٓ أَذۡكُرۡكُمۡ وَٱشۡكُرُواْ لِي وَلَا تَكۡفُرُونِ﴾ [البقرة:152]. وقوله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَٰتِ مَا رَزَقۡنَٰكُمۡ وَٱشۡكُرُواْ لِلَّهِ إِن كُنتُمۡ إِيَّاهُ تَعۡبُدُونَ﴾ [البقرة:172]. وقوله تعالى: ﴿فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ حَلَٰلا طَيِّبا وَٱشۡكُرُواْ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ إِن كُنتُمۡ إِيَّاهُ تَعۡبُدُونَ﴾ [النحل:114].
فإن كانت عبادتكم خالصة له سبحانه حقاً فعليكم أن تشكروا نعمه فإن العبادة تستلزم الشكر بل هو من ضروب العبادة وأنواعها، ويأتي الحديث مفصلاً عن هذا الخلق في محله بإذن الله.
لقد أعطانا الله عز وجل أدوات التمكين، وسخر لنا كونه وأرضه وجعل لنا فيها المعايش التي تستحق شكره ليلاً ونهاراً، سراً وعلناً، قولاً واعتقاداً وعملاً.