يتسم علم النفس الحديث بتركيزه على الجانب السفلي من النفس دون الجانب العلوي المتعلق بالروح، فنجد أن المستوى الشعوري عند الفرد لا يفهم، ولا تتحدد بنيته إلا انطلاقا من مستويات أدنى، تلك المستويات التي يوجد الإنسان مقسورا في إطارها الجبري، حيث يعجز أن تكون له إرادته الخاصة القادرة على الاختيار والتغيير.
وتتكون هذه المستويات بطبيعة الحال من البنيات اللاشعورية كما يعرفها فرويد، حيث الدوافع الجنسية والحيوانية، وكذا من العادات الاجتماعية المفروضة. وكان من نتائج هذه الفرضية أن الحالات النفسية تكون سفلى بقدر ما كانت عميقة.
إن سيادة وانتشار هذا التفسير النفسي المنطلق من المناطق السفلى في النفس، أدى إلى إبعاد الروح كعامل أساسي في فهم وتكوين باطن الإنسان. ومن هنا فإن علم النفس الحديث في الغرب المعاصر لا يعير الروح اهتماما بل لا يعترف بوجودها. وعلى هذا الأساس فإن الاعتماد على معطيات هذا العلم، والرجوع إليها قد يكون -في كثير من الأحيان- عملا غير سليم.
إن علم النفس الحديث يهتم بالدرجة الأولى بدراسة إنسان الحضارة الغربية، وإذا ما حاول أن يدرس ويحلل إنسانا لا ينتمي إلى هذه الحضارة فإنه كثيرا ما يفشل في مهمته، لأن المقاييس التي يعتمدها ذاتية، وضعها وصاغها الإنسان الغربي ليستعين بها على تحليل ذاته، وذاته لها خصوصيات معينة، كما أنها بلغت حدا بعيدا من التعقيد، مما استلزم إيجاد وسائل ومقاييس ومناهج مناسبة للعمل على حل المشكلة، بالإضافة إلى أن القطيعة الروحية التي أصابت أوربا عقب الثورة على الكنيسة والثورة الفرنسية والثورة الصناعية، أفرزت إنسانا يكاد يكون شاذا، لم تعرف الحضارات السابقة شبيها له.
في حين أن الإنسان المسلم لم يعرف حالة القطيعة الروحية، ولا الحياة المادية المستلزمة لعلم النفس بالمقياس الغربي، فالمسلم كما نعلم له اختيار حضاري من طراز رفيع يربط الأرض بالسماء، وله سلوك فريد من نوعه يتحدد من خلال ذلك الاختيار.
وإذا كان الإسلام يعالج قضايا النفس الإنسانية من الأسفل إلى الأعلى، فإن علم النفس الغربي يعالج تلك القضايا في اتجاه المنطقة السفلى، فالوحي حين يخاطب النفس البشرية ويتوجه إليها بالتربية والعلاج، يأخذ بيدها فينتشلها من منطقة الظلام، ومن أوساخ طينة الجسد ويعرج بها إلى صفاء العالم الروحي. في حين أن علم النفس الغربي الحديث يأخذ بيد النفس فينتزعها من منطقة العقل ويهوي بها إلى أعماق المناطق المظلمة والحيوانية في الذات البشرية، ومن هنا كان مفهوم اللاشعور مثلا أكثر المفاهيم النفسية تعبيرا عن هذا الاتجاه من «الأعلى إلى الأسفل».
وإذا كان العروج بالنفس الإنسانية إلى العالم العلوي يجعلها تداعب النفحات الملائكية، فإن الانحدار بها في أودية المناطق المظلمة يسقطها في عالم الشياطين والتأثيرات الشريرة، مصداقا لقوله تعالى: {الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات}[1].
نعم إن العمل على استنباط وصياغة المفاهيم والأفكار المتعلقة بالنفس والاجتماع والتاريخ إلى غير ذلك انطلاقا من الكتاب والسنة وآراء المجتهدين من فقهاء الأمة وعلمائها، عمل مشروع وضروري، حتى يتسنى للمسلم فهم ومعالجة أوضاع المسلمين الاجتماعية والثقافية بمنطق إسلامي محض، هذا مع الاستعانة إذا اقتضى الحال ببعض الأدوات والتقنيات والمناهج الحديثة والمجردة من أية إيديولوجية والتي يمكنها أن تنسجم مع الروح الإسلامية، ولا تتعارض مع قيم الإسلام ومعاييره.
أما أن نعمد إلى تبني مفاهيم ونظريات ومناهج العلوم الإنسانية، وصياغتها صياغة إسلامية أو وضعها في قالب إسلامي، فهذا عمل لا يخلو من انزلاقات خطيرة، ذلك لأن أقصى ما يمكن أن تحققه هذه العملية العقلية والمنهجية؛ هو إفراغ نظريات ومفاهيم العلوم الإنسانية الغربية من مجموع محتواها وملؤها بالمحتوى الإسلامي.
لكن ألا يؤثر الشكل القديم في المحتوى الجديد؟
أليست هناك علاقة تأثير وتأثر بين الأشكال والمحتويات؟
هب أننا تبنينا مفهوم اللاشعور مثلا وجردناه من كل محتواه واحتفظنا بالشكل؛ أي لفظ اللاشعور -ذلك اللفظ الذي نوهم أنفسنا بأنه في هذا المرحلة الانتقالية يكون مجردا من كل معنى-! وأفرغنا فيه المحتوى الإسلامي، ألن يذوب أو، على الأقل، يتكيف هذا المحتوى الجديد مع الشكل القديم؟ ألن يتأثر هذا المحتوى بتقسيم فرويد لمستويات النفس والوعي؟
ومما يؤسف له في هذا الصدد أن بعض الكتاب المسلمين يندفعون دون أدنى تريث وراء استعمال مثل هذه المصطلحات وإقحامها في كتاباتهم. يقول الدكتور نبيل السمالوطي: «وهناك من دوافع السلوك ما لا يكون الإنسان منتبها إليها واعيا بها، ومع هذا تحرك سلوكه دون علم منه، وهي ما يطلق عليها الدوافع اللاشعورية أو غير المشعور بها».[2]
إننا إذا اعترفنا باللاشعور أو بدوافع «لا يكون الإنسان منتبها إليها واعيا بها… تحرك سلوكه دون علم منه»؛ كما يقول السمالوطي فإننا سوف نسقط جانبا من المسؤولية في الأفعال الإرادية الصادرة عن الشخص المسلم، وبالتالي سنعذر الأشخاص في كثير من تصرفاتهم لكونها لا شعورية، وهذا لا يتفق مع روح الشريعة.
وفي موضوع بمجلة «كلية الدعوة الإسلامية» تحت عنوان «علم النفس في القرآن الكريم» عمد الأستاذ ناصر العزيز إلى إثبات تشابه بين النفس المطمئنة التي ورد ذكرها في القرآن: «يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية» [3] والذات الشعورية بتعريف علم النفس الحديث.
ولنستعرض جزء من كلامه في هذا الشأن، كي نتبين سذاجة التحليل والجهل بمعاني ألفاظ القرآن:
«هذا كما يوجد مفهوم للنفس ورد في القرآن الكريم «النفس اللوامة»، يقول الله تعالى: {لا أقسم بيوم القيامة ولا أقسم بالنفس اللوامة}، ومفهوم آخر نقيض له «النفس المطمئنة» يقول الله تعالى: {يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية}. إن مفهوم النفس اللوامة يعتبر محورا لكثير من الدراسات النفسية في مجال التحليل النفسي والأخلاق حيث إن الذات التي تتصف بالصفات الدالة عليها كلمة لوامة إشارة إلى أنها ذات مريضة، ذات غير سوية، بمفهوم المحللين والمعالجين النفسانيين يستوجب معالجتها لتشفى من سوء التوافق الذي تعاني منه!؟
في حين أن علم النفس استفاد أيضا، بل بنيت كثير من دراساته على ما ورد في القرآن الكريم حول النفس المطمئنة» في وصف وإيضاح ما اتفق على تسميته «بالذات الشعورية»، وهي الجانب النفسي من الشخصية الذي يواجه العالم الخارجي، ويتأثر به ويكاد يكون صورة للواقع الذي تقره البيئة، وهو ما يطلق عليه صاحب مدرسة التحليل النفسي فرويد مصطلح الأنا؟!
إن الذات الشعورية «المطمئنة» اكتسبت صفة الهدوء والاطمئنان، وهي تمثل كذلك جانب الخير في الشخصية، في حين تمثل النفس اللوامة التكبر والتعالي والأنانية والغرور، وهي صفات جانب الشر في الشخصية. ونتيجة تناقض الجانبين ينشأ ما يعرف بالصراع الداخلي والذي تظهر نتائجه في صورة سوء التوافق النفسي والعقلي!؟[4] (.
في البداية لم يفهم الأستاذ ناصر العزيز مدلول النفس اللوامة، فقد وصفها بالتكبر والأنانية! وكان عليه من باب الموضوعية والنزاهة العلمية أن يرجع إلى بعض التفاسير القرآنية ليتأكد من فهمه.
جاء في «صفوة التفاسير» مثلا أن المقصود بقوله تعالى: {ولا أقسم بالنفس اللوامة} أي أقسم بالنفس المطمئنة المؤمنة التقية التي تلوم صاحبها على ترك الطاعات وفعل الموبقات.[5]
أما فيما يتعلق بالمماثلة بين «النفس المطمئنة» وبين «الذات الشعورية» أو «الأنا» فإنها مماثلة خاطئة. فالنفس المطمئنة يقصد بها في سياق الآية النفس الطاهرة الزكية المطمئنة بوعد الله.
قال المفسرون بأن الخطاب الموجه إليها بقوله تعالى: «يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي» يكون عند الموت، وهو ما يقال للمؤمن عند احتضاره.
أما الذات الشعورية فهي في نظر علم النفس الحديث وخصوصا نظرية التحليل النفسي، ذلك الجانب الواقعي للشخصية الذي يتكون نتيجة لاتصال الطفل بالعالم الاجتماعي الواقعي بواسطة حواسه وجوارحه المختلفة، ومن خلال اتصاله بوالديه يعرف أنه لا يمكن أن يحقق كل رغباته دفعة واحدة وقتما شاء وبالأسلوب الذي يريد، وإنما يجب التنازل عن كثير من الرغبات وإلا تعرض للأذى والألم.
وأثناء عملية التربية والثواب والعقاب يتعلم الطفل أن هناك سلوكا يحقق له السرور، وآخر يسبب له الأذى، فيسلك الأول ويجتنب الثاني. ويلعب الأنا دورا هاما في كبح الهو والحد من تطرفه، والأنا هو مركز الشعور والإدراك والحكم والتفكير وهو الذي يراقب أعمالنا، وهو الضابط والمتحكم في الدوافع حيث يسمح بتحقيقها أو بردها.
وإذا كان مفهوم النفس المطمئنة ينطوي على أبعاد روحية عميقة من خلال ربط كيان المسلم بعالم الغيب والسماء، فإن مفهوم الذات الشعورية ينطلق من إطار القطيعة الروحية بين السماء والأرض، تلك القطيعة التي أرست قواعدها فلسفة النهضة الأوربية، ومن هنا فإن هذين المفهومين متعارضان لتعارض إطاريهما.
وفي اللقاء العالمي الرابع للفكر الإسلامي الذي تمحور حول «قضايا المنهجية في العلوم السلوكية» قال أحد المشاركين: «إن مجتمع المؤمنين متجانس ومترابط حيث تقل فيه القلاقل العاطفية ويتميز الأفراد فيه بإيجابية في علاقاتهم مع الآخرين بفضل الرياضة الروحية. فالتأمل الارتقائي مثلا الذي يستخدم الآن في العلاج الاسترخائي، أمر ثابت في صميم العبادات الإسلامية»[6].
إن هذا الخلط بين التأمل الارتقائي المستخدم في العلاج الاسترخائي الحديث، وبين السمو الروحي والسكينة الباطنية اللذين يشعر بهما المسلم أثناء ممارسته للعبادة، خلط مفتعل ولا أساس له، وليس ثمة تشابه بينهما لاختلاف الأرضية والرؤية.
والخلاصة أن هناك أخطاء علمية ومنهجية، وقع فيها كثير من الباحثين والكتاب المسلمين المهتمين بموضوع الدراسات النفسية، أو بما يسمى: «إسلامية المعرفة». ويبدو أن عملية الاستفادة مما توصل إليه الغربيون في مجالي النفس والسلوك، ينبغي أن ينبني على أمرين أساسيين:
أولهما: اطلاع واسع وعميق على نشأة وتطور النظريات النفسية في الغرب، ورصد معالمها وأسسها البنيوية رصدا دقيقا، وربطها بمناخها الاجتماعي والنفسي والفلسفي والعقدي.
ثانيهما: التسلح بمعرفة علمية عميقة ومركزة بالوحي القرآني والحديث النبوي، وكذا بالتراث الإسلامي المتعلق بميدان النفس والسلوك، وبالمنهجية التي استخدمها المسلمون في سبر أغوار النفس، ومعالجتها وتزكيتها.
ــــــــــــــــــــــ
[1] – سورة البقرة آية 257
[2]- الإسلام وقضايا علم النفس الحديث؛ نبيل السمالوطي ص 86
[3]- سورة الفجر الآيتان 27-28
– [4] مجلة كلية الدعوة الإسلامية/ طرابلس ليبيا العدد 5- 1988 ص 88-89
[5] – صفوة التفاسير ج 3- ص 484
[6] – قضايا المنهجية في العلوم السلوكية؛ الدكتور الزبير بشير طه والأستاذ أحمد محمد الحسين/ المعهد العالمي للفكر الإسلامي (واشنطن) جامعة الخرطوم قسم علم النفس/ الخرطوم 15-22 يناير 1987.