مما استثارني وأنا أسمع لدرة من درر العلامة المحدث أبي إسحاق الحويني، حديثه العميق عن طبيعة المناظرة الإسلامية الصحيحة المبنية على القواعد الكبرى للإسلام، مقررا أن الشفقة على المخالف وإن كان غير مسلم مقدمة على الرغبة في تبكيته وإفحامه وفضحه أمام الملأ.
مستدلا لذلك بأصل أصيل في الإسلام الحنيف، وهو الغاية السامية العظيمة من هذا الدين المنزل لكافة الناس؛ إذ لا يخفى أن إخراج الخلق من الظلمات إلى النور هو الرسالة الربانية التي بعث بها رسولنا وجميع الأنبياء عليهم أفضل الصلاة وأزكى التسليم؛ والعالم أو طالب العلم الذي يقتفي أثرهم ويمشي على نور من ربه، يجب أن يراعي نفسية هذا المخالف الجاهل المظلمة حالته، وأن يشفق عليه ويحرص على انتشاله من مستنقع الشك أو الجهل المركب، بعد أن يخلص نيته لله عز وجل في أن يهدي على يديه كل من يناظر ويجادل.
كما ينبغي له أن يتحلى بآداب الإسلام ظاهرا وباطنا، وأن يدعو الآخرين بحكمة وموعظة حسنة، لا أن يشمت بالمخالف، ويجعل مراده وغاية مناه التشهير به وفضحه وتعريته من كل خير؛ لما في ذلك من مضار قد تنقلب على الداعي وعلى الإسلام نفسه.
وحتى إن كان المناظر مخلصا نيته لله تعالى في هداية الخلق للطريق المستقيم أو المنهج الصحيح، فلا يصح أن يتشنج ويزبد ويرعد؛ كي لا تقبح صورته وتنقص مكانته أمام المستمعين.
لذلك أوصى العلامة أبو إسحاق طلبة العلم بأن لا يبدؤوا دراستهم الفقهية بكتاب المحلى لابن حزم؛ نظرا لقوة شكيمة الرجل وشدة طريقته في إيراد الحجج والبراهين، وهو معذور في ذلك لمن يعرف سيرته رحمة الله عليه، وأولى بهم البدء بفقه الشافعي الذي راعى طريقة سرد الأدلة عقلا ونقلا بأسلوب عربي فصيح لين.
مضيفا حفظه الله ومتع به قولة جليلة عظيمة، من عمل بها من الدعاة إلى الله، وجعلها نصب عينيه، فاز برضا الله تعالى ثم قبول الخصم، وهي: “من عرف النار لا يدعو بها على أحد”، ذلك بأن خلاصة الدين الإسلامي هي توحيد الله تعالى واتباع رسوله الكريم طلبا للجنة وفرارا من النار، والعارف بأهوال جهنم يجب أن يراعي أن المخالف لا يفقه عنها شيئا، وهو أخيرا تحت مشيئة الله سبحانه، إن قدر هداه فلا مضل له، وإن قدر ضلاله فلا هادي له، وفي ذلك قال تعالى مهونا على رسوله الكريم: {فلعلك باخع نفسك أن لا يكونوا مؤمنين}.
وانتقل إلى الحديث عن أن أحدا لا يتحكم في قبول الله سبحانه إلا هو، فمن جعل الله له القبول من أهل العلم المبلغين بإخلاص قولا وعملا، فلا يخاف ظلما ولا هضما، والحق عليه نور، وأهله يحوطهم النور، والموفق من سدد الله خطاه.
فكم من المناظرين تسمع له جعجعة ولا ترى له طحنا، وآخر تلين له القلوب وتصغي له الأسماع، ولله الأمر من قبل ومن بعد.