مساءلة المشروع الحداثي المغربي عن مدى استجابته لدين الدولة والشعب إبراهيم الطالب

لا يماري أحد في أن هناك إرادة لدى الدولة في تحديث المغرب والرفع من مستوى عيش المواطنين، كما لا يماري أحد في أن المغرب اليوم يعيش انفتاحا لم يسبق له مثيل على كل شيء وفي كل الاتجاهات، هذا الانفتاح فرضه ارتباط مصالح المغرب بالدول الغربية التي تسعى إلى جعل المغرب مثالا يحتذى من طرف الدول المنضوية تحت ما أسمته الاستراتيجيات الغربية بالشرق الأوسط الكبير، لذا مافتئت تخلع عليه عبارات المديح والإشادة بما حققه في مجال ضمان الحريات واحترام حقوق الإنسان، مع الإبقاء على المتابعة الحثيثة والمراقبة الصارمة لكل الخروقات والتجاوزات، وتسطيرها مصحوبة بالشجب ضمن تقريرات سنوية وتصريحات انتقادية، وذلك حتى تدفع الدولةَ المغربية إلى استكمال المشروع الحداثي وفق المفهوم الغربي للحداثة.
فإلى أي درجة يستجيب المشروع الحداثي لدين الدولة والشعب؟
سنحاول أن نستشف ملامح هذا المشروع من خلال تسليط الضوء على السجال الواقع بين ما هو إسلامي وما هو علماني. وذلك باستنطاق ومساءلة بعض الأركان الأساسية التي تسهم عمليا في بناء المشروع الحداثي وتطبيق تفاصيله على أرض الواقع.
فما هي هذه الأركان؟
الأركان الأساسية للمشروع الحداثي:
يمكن أن نختزل أركان المشروع الحداثي في الآتي:
1- الدولة.
2- المنظومة القانونية والتشريعية.
3- الأحزاب السياسية.
4- الاقتصاد.
5- الجمعيات والمنظمات الحقوقية.
6- الجمعيات والمؤسسات الاجتماعية.
7- الشعب أو المواطنون.
وقبل مساءلة بعض هذه الأركان واستنطاقها، نحب أن نشير إلى أن سقوط ركن: “العلماء ومؤسساتهم الرسمية”=(وزارة الأوقاف، المساجد، الرابطة المحمدية، المجالس العلمية..) من قائمة الأركان، لم يكن من قبيل السهو أو التجاهل، ولكن لكونه لا يلعب الدور القيادي المفترض فيه القيام به انطلاقا من واجبه في التمكين للمشروع الإسلامي المناهض للمشاريع العلمانية، بل -على العكس من ذلك- نجده يضطلع بمهمة تنميط الخطاب الإسلامي والتضييق على منتجيه، وتقزيم دور المسجد في الدفاع عن تعاليم الإسلام وشجب ما يناقضها مما هو من صميم المشروع الحداثي بدعوى إبعاد المسجد عن المزايدات السياسية، مع الدعوة إلى التقليد ونبذ الاجتهاد إلا في ما تتطلبه ضرورة إضفاء الشرعية على بعض ما يمكن أن ينعت بالخروج السافر عن تعاليم الدين الإسلامي قصد اجتناب ردود الفعل؛ بينما يتم غض الطرف عن الكثير من التدابير والقوانين المناقضة للدين والشريعة.
هذا بالإضافة إلى أن مشروع إعادة تأهيل “الحقل” الديني أريد له أن يكون مشروعا “تساوقيا” يُخضع ما هو شرعي لما هو قانوني، وبعض ما هو ديني لما هو علماني، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن الإسلام دين الدولة والشعب، واستصحبنا في نقد هذا المشروع “التساوقي” التاريخ الإسلامي للمغرب والأسر الحاكمة المتداولة على عرشه، ولم نسقط عمدا -كما هو ديدن النخبة العلمانية- مقاومة القصر والمخلصين من المجاهدين للمشروع الاستعماري الرامي إلى علمنة المغرب من خلال سن القوانين العلمانية دون اعتبار لمخالفتها لدين الدولة والشعب، وكذا مواقف علماء المغرب من خلال رابطتهم بعد الاستقلال.
ونشير إلى أننا سنكتفي بالحديث عن ركن المنظومة القانونية والتشريعية، وركن الجمعيات والمنظمات الحقوقية، وذلك لأن إفراد كل ركن بالكلام يحتاج إلى بسط لا يتناسب مع حجم المقال.

– ركن المنظومة القانونية والتشريعية:
تلخصت أهم الأسباب التي عُلل بها فرض الحماية على المغرب سنة 1912م في ضرورة إجراء إصلاحات إدارية ومالية واقتصادية حتى تتمكن الدول الأوربية من استرداد ديونها التي أرهقت كاهل الدولة المغربية، لذا حاول دهاقنة الاستخراب الفرنسي أن يستغلوا الوضع فعملوا على إلغاء الشريعة الإسلامية تدريجيا، وتبديلها بقوانين فرنسية علمانية كانت دائما موضوع انتقاد ومحاربة وشجب من طرف القصر والعلماء وكافة المغاربة، همت كل مناحي الحياة: السياسية والعسكرية والتعليمية والقضائية والاقتصادية، حيث تم التضييق على القضاء الإسلامي بإنشاء محاكم مدنية تسهر على تنظيمها سلطات الاحتلال، مع سن قانون مدني بدل الشرع الإسلامي الذي كان يتمثل في الفقه المالكي، وبتوالي عقود الاحتلال اكتملت القوانين والتشريعات وضبطت كل شيء وفق مشروع علماني فرنسي منقول عن جمهورية فرنسا العلمانية، نظم حتى شرب الخمور وممارسة البغاء وتعاطي القمار، مما كان له الأثر البالغ في تغيير ملامح الحياة الإسلامية في المغرب.
هاته الملامح التي شوهها المشروع العلماني الفرنسي، ورثها مغرب الاستقلال عن مغرب الاحتلال، فماذا تغير على مستوى رد الاعتبار للشريعة الإسلامية وللشعب المغربي المسلم؟
بالنظر إلى المستوى القانوني والتشريعي لم يتغير شيء ذا أهمية، فكل قوانين وتشريعات الاحتلال اكتفي بعد الاستقلال بتعديلها أو تتميمها، حيث لم يتم إلغاء قوانين المتاجرة في الخمور مثلا، وكذا قوانين تنظيم القمار بل حتى قانون تنظيم البغاء لم يتم إلغاؤه صراحة واكتفي بإهماله، مما يعطي الفرصة للعلمانيين في المطالبة بإعادة تفعيله، الأمر الذي يدفعنا إلى التساؤل: هل المشروع الحداثي المبني على قوانين علمانية أصلها غربي، يمكن أن يحقق أي تنمية أو تقدم مع تكريسه للتناقض الصارخ بينه وبين الدستور المغربي الذي ينص صراحة على أن الإسلام هو دين الدولة، خصوصا إذا استحضرنا أن إقامة مشروع إسلامي شامل أصبح خيار الملايين من المغاربة؟ مما يعني استمرار الخلاف بين مكونات المجتمع حول خيار استراتيجي يعول عليه في إخراج المغرب من بوتقة الأزمة، وحتمية الإفلاس على كل المستويات.
إن استمرار العمل بمنظومة قانونية علمانية شجع المنظمات الحقوقية التي تعتبر من أهم أركان المشروع الحداثي على المطالبة بمجموعة من التعديلات القانونية والدستورية، سيكون من شأن قبولها إبطال العمل بما تبقى من ملامح الدين الإسلامي في القانون المغربي؛ الأمر الذي يجعلنا نسائلها عن مدى استجابتها للدين الإسلامي دين الدولة ودين الشعب.
– ركن الجمعيات والمنظمات الحقوقية
من المعلوم أن الجمعيات والمنظمات الحقوقية تعتمد في عملها وصياغة مطالبها على المواثيق الدولية والفلسفات المادية الغربية المؤسسة لثقافة حقوق الإنسان الغربي العلماني وليس المسلم، الأمر الذي يجعل جل مطالبها تناقض المرجعية الأصلية المؤسسة لحقوق الإنسان المسلم، وفي اعتقادنا أن هذا التناقض ناتج عن كون هذه المنظمات هي مجرد امتداد للمنظمات الحقوقية الغربية، التي نشأت في مجتمعات علمانية خاصمت الدين وفصلته عن السياسة، وبدّلت أسس تنظيم مجتمعاتها من نظام يحكم باسم الله إلى نظام يحكم باِسم الإنسان، حيث بنت قوانينها على أساس القانون البشري وليس الوحي الإلهي، فصار أي كلام عن أي كتاب من الكتب الإلهية محط تهميش وازدراء، وأي تدخل باسم الدين في السياسة يقابل بالرفض الصارم، وأي منظومة فكرية أو عقائدية يمكن أن يشكل أصحابها خطرا على تصور رئيسي من تصورات العلمانية تعامل بالشجب والمنع، وأي سلوك اجتماعي جماعي يضايق السلوك العلماني تعدَّل لأجل محاربته القوانين، ومن هنا كانت هذه الحرب على الحجاب والنقاب في العالم الغربي، واستفتاء الصوامع في سويسرا. ولم يخف ساسة الغرب أن سَنَّهم للقوانين الحادة من حرية المنقبات والمحجبات يدخل في صميم حماية الهوية العلمانية لدولهم، هذا في الوقت الذي لا يرى الحقوقيون والقانونيون والفلاسفة والمثقفون في الغرب بأسا من تقنين اللواط والسحاق والزنا والبغاء، بل تطور الأمر إلى أن أصبح الأصل عندهم هو الإنجاب خارج مؤسسة الزواج، فسُنَّت لذلك القوانين وأسست الجمعيات والمنظمات الاجتماعية لاحتواء الآثار الجانبية لممارسة الحرية الفردية التي شكلت المقدس الذي حل مكان الإله في الفكر الغربي.
فأنْ يقدس الغرب العلماني الحرية الفردية أمر مفهوم ينسجم مع منظومته الفكرية، لكن أن تقوم منظمات وجمعيات حقوقية مرخص لها من طرف السلطات المغربية المسلمة، وتعتبر نفسها تدافع عن حقوق المغاربة المسلمين بالمطالبة مثلا باسم احترام الحرية الفردية بـ”إلغاء القوانين التي تعتبر أن الخمر لا يباع إلا للأجانب، أو التي يعاقب بموجبها مواطنون مغاربة على شرب الخمر أو اقتنائها، وذلك لملاءمة القوانين الجنائية مع مضمون الوثيقة الدستورية ومع ما تم التعهد به دوليا من طرف الدولة المغربية”، كما صرح بذلك بيان جمعية بيت الحكمة، أو تدافع عن حقوق اللواطيين الفردية في ممارسة رذيلتهم كما ثبت عن رئيسة الجمعية الحقوقية المذكورة، أو تطالب بالمساواة في الإرث بين الرجل والمرأة كما صرحت بذلك رئيسة الرابطة الديمقراطية لحقوق المرأة، فهذا مرفوض في بلد مسلم.
فإذا كانت الدول الغربية تسن القوانين للمحافظة على هويتها العلمانية فأين قوانيننا التي تحافظ على الهوية الإسلامية؟
ثم ألا يجدر بنا أن نعدل منظومتنا القانونية حتى تتلاءم مع شريعتنا الإسلامية التي تعتبر من أهم مقومات هويتنا الإسلامية؟ بدل أن نقف مكتوفي الأيدي أمام عبث المنظمات الحقوقية وجمعيات العلمانيين وبعض أحزابهم.
إنه لمن العار أن نقبل جرأة هؤلاء العلمانيين وهم يفرضون على السلطات تعديل الدستور والقوانين الجنائية ومدونة الأسرة وجعلَ كل قوانين المغرب المسلم، تتلاءم مع قوانين الدول الغربية بدعوى أنها اكتسبت صفة الدولية بمجرد أنها صدرت عن منظمة أسّسها الغرب يوم كانت كل الدول الإسلامية تحت احتلاله، بالإضافة إلى امتلاكه سلطة إبرام كل شيء أو نقضه بما احتكره لدوله من حق النقض “الفيتو”، هذا بينما نعاين سكوت علمائنا الأفاضل الذين يفترض فيهم استكمال ما بدأه أسلافهم من دفاع عن الهوية والدين.
إن أي مشروع حداثي لن يكتب له النجاح في المجتمع المغربي إلا إذا تم تعديل مفاهيم وأسس الحداثة لفائدة مفاهيم ومقومات الهوية الإسلامية بشكل لا يتناقض مع الشريعة الإسلامية، ففي ذلك الخير كله لقول الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً} النساء.
وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *