شهر رمضان وعبادة الصوم طاعة للرحمن

كان أهل الإسلام في أزمنة مضت يستقبلون شهر رمضان المبارك بالاستبشار والفرح والسناء، وبمشاعر فياضة بالمحبة والأنس والبهاء، وبنفوس مليئة بعزة الانتماء.

لسان حالهم يقول:
رمضان هـلّ بـوافـر الخيـرات *** يهدي لـنـا الآمال والبـركـات
يحيي القلوب بهدي رب راحم *** ويـُمِـدنا بالـنـور والـنـفحــات
شهرَ الفضائل جئتنا تجلو العنا *** بالحـب تـنعـشـنـا وبالنسـَمـات
فما أنْ يُعلن دخولُ شهرِ رمضان الأغر فيهم حتى ترى الناس وحدانا وزرافات قد أقبلوا على الخيرات، وسارعوا إلى الطاعات، مع الاعتزاز بدين رب الأرض والسماوات، كأنَّ الروحَ تسبحُ فيما يكرم الله به من النفحاتِ، وكأنَّ القلوب استبدلت بأخرى لمْ تبارز ربها بالمعاصي في الجلوة ولا في الخلوات، فياله من شهرٍ كثير البركاتِ والخيرات.
أما في زماننا هذا فتدنست قلوب كثير من المسلمين، ولم يحملهم إقبال هذا الشهر الكريم على التوبة والإنابة والرجوع إلى رب العالمين.
أصيبوا بالخور والضعف والكسل فلم يشمروا فيه لفعل الخيرات، ولم يجاهدوا النفوس للإكثار من الطاعات والعبادات.
حل فيهم داء الحقد والقطيعة والتدابر والشحناء، ولم تؤثر فيهم نسمات رمضان الغراء لسوء الطوية وخبث السريرة وهذا أدوأ الداء.
تبلدت الأحاسيس، وضعف الانتماء للدين، مع أن هذا الشهر الكريم المفروض أن يكون للمسلمين تذكرة بعزتهم وقوتهم ومنعتهم ودافعا لهم إلى تمسكهم بهويتهم الإسلامية، وبأصولهم الدينية.
فرمضانُ المباركُ شهرُ صمودٍ وتحدٍّ؛ وشهرُ ثباتٍ وتصدٍّ، وشهر محاسبة ومجاهدة، تقبل فيه الجموع الصائمة -حقا وصدقا- وتتسابقُ إلى الخيراتِ تعبُّداً لله تعالى وتألهُّا وخشيةً ومحبةً ورجاءَ وخوفا.
وهو محطة لاجتماع الفرقاء على عبادةٍ يبغضها شياطينُ الإنسِ والجنِّ وهي العفوُ والتسامحُ وإزالةُ أسبابِ القطيعةِ والتشاحن والتدابر، ففي رمضان الأغر من معاني الوحدةِ والمشاعرِ المشتركةِ ما لا يخفى على بصير.
وصومُ رمضانَ ليسَ امتناعاً عن الأكلِ والشربِ والجماعِ ساعاتٍ محددةً فقطْ، بلْ هو صومُ الفرجِ والبطنِ واللسانِ والأذنِ عنْ كلِّ ما حرَّمَ الله ليلاً ونهاراً.
ورمضانُ فرصةٌ لكسرِ الحدَّةِ وإصلاحِ النَّفسِ وتقويمها فكيفَ نجعلُ منه ذريعةً للانفعال والخصامِ وقبيحِ الفعال؟
وشهرُنا شهر العزة والفخر وإبراز صدق الانتماء فهو موسمُ الانتصاراتِ الكُبرى والفتوحات الخالدة على ممر تاريخ الإسلام.
ورمضانُ يُطِبُّ البخلَ بالجودِ والكرمِ إذ هو زمنُ البذلِ والإحسانِ وشعورُ الأغنياءِ والمترفين بجوعِ الفقراءِ والمعوزين.
فهذه الأيامُ المباركةُ والليالي الفاضلةُ موسمٌ رابحٌ لمن أرادَ ذكرَ الله وشكرَه وتعظيمَه والثناءَ عليه، وموسمٌ مضمونُ الربحِ لمن رغبَ الاتجارَ معَ الله في الآخرة بإخلاص وصدق، وموضعُ قبولِ الدعوات والتضرعاتِ فما أكثرَ ما نرجوه وننشده في الآخرةِ والدنيا على صعيد الفردِ والأمة، وهو موسمُ الآثارِ الباقيةِ والدعواتِ الناجحةِ والاحتسابِ النافذِ والخيرِ الذي لا يزولُ، فجديرٌ بكلِّ مسلمٍ أنْ يشمرَ عن ساعدِ الجدِّ الذي لا يعرفُ الكلالةَ عسى أنْ نكونَ فيه من الفائزين
فكم لهذا الشهرِ الكريمِ -لمن دخله بحقه وعمل فيه بشرطه- من آثارٍ تربويةٍ على الأفرادِ والجموعِ وليس هذا بمستغربٍ على موسمٍ جليلٍ أراد الله منه تقوى العبادِ وبراءةَ النّفوسِ من أوزارِ الحياةِ، وطهارتِها من أوضارِ الهوى.
قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).
واعلم أن عبادة الصوم حتى تؤتي أكلها وتظهر آثارها السنية وموجباتها العلية تربية وخلقا وأدبا وسكونا وطمأنينة.. فلا بد من ربطها بالمقامات الإيمانية وبجملة من العبادات القلبية، وإليك بيان الأهم منها:
الصوم من جملة العبادات التي يشترط لقبولها الإخلاص لله تعالى، فيها ففي الحديث الصحيح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقول الله عز وجل: “الصوم لي وأنا أجزي به يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي..”.
فقوله: “من أجلي” تنصيص على تحقيق منزلة الإخلاص في هذه العبادة الجليلة، فالإخلاص روح الطاعات وبه تصفية الأعمال والقربات.
والصيام عبادة قائمة على الإمساك عن المفطرات، والفطام عن الذنوب والمنكرات مما يبين أهمية منزلة الصبر عند أدائه.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “صوم شهر الصبر وثلاثة أيام من كل شهر يذهبن وحر الصدر” صحيح الترغيب والترهيب 1/294.
قال ابن الأثير رحمه الله:”.. [الصَّومُ يُذْهِب وَحَرَ الصَّدْر] هُو بالتَّحريك: غِشُّه ووَساوِسُه. وقيل: الحِقْد والغَيْظ. وقيل: العَداوَة. وقيل: أشدّ الغَضَب” النهاية 5/346.
ومن المقرر عند أهل العلم أن الإيمان نصفان: نصفه صبر والآخر شكر مما يبين ضرورة ربط الطاعات بمنزلة الشكر، وهذه الأخيرة تكون بالقلب واللسان والعمل، فالعزم -إذن- على أداء عبادة الصوم بإخلاص وصدق هو تحقيق للشكر مصداقا لقوله جل وعلا: “بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنْ الشَّاكِرِين”.
قال ابن رجب رحمه الله: “الصائم يدع طعامه وشرابه لله فإذا أعان الصائمين على التقوي على طعامهم وشرابهم كان بمنزلة من ترك شهوة لله وآثر بها أو واسى منها ولهذا يشرع له تفطير الصوام معه إذا أفطر لأن الطعام يكون محبوبا له حينئذ فيواسي منه حتى يكون ممن أطعم الطعام على حبه ويكون في ذلك شكر لله على نعمة إباحة الطعام والشراب له ورده عليه بعد منعه إياه فإن هذه النعمة إنما عرف قدرها عند المنع منها” لطائف المعارف1/183.
ومما يحمل على محبة القلوب لعبادة الصوم ثم أداؤها بعد على وجهها الوقوف على فضائلها ومن ذلك استحضار أن هذه الطاعة من جملة الطاعات والقربات أضافها الله إليه دون غيرها مع أن الكل له سبحانه ففي الحديث الصحيح القدسي قوله سبحانه: “الصوم لي وأنا أجزي به..” الحديث.
أما قوله في الحديث: “وأنا أجزي به” يحمل على رجاء ثواب هذه العبادة من الله تعالى، هذا مع أدائها على وجهها حتى لا يكون الرجاء غرورا وكذبا، فقد أجمع أهل العلم والعرفان على أن الرجاء لا يصح إلا مع العمل..
أما تحقيق مقام الخوف عند هذه الطاعة فنقول أن الصائم عند إفطاره يتكلم بما يوجب هذا المقام حيث يقول: “ذهب الظمأ وابتلت العروق وثبت الأجر إن شاء الله”.
فقوله: إن شاء الله، يحمل على تحقيق منزلة الخوف إذا تم تحسس معناه حيث أنه علق الأجر والثواب بمشيئة الله تعالى.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *