صيحة النذير إلى أئمة المساجد من برنامج الـتأهيل أبو عبد الرحمن ذوالفقار بلعويدي

هذا المقال -إن شاء الله- هو تتمة لتلك الحلقات الثمانية التي أسميتها «التصوف السني بالمغرب حقيقة أم خديعة».
والتي بينت فيها تهافت دعوى دعاة تقسيم التصوف إلى سني وبدعي وما فيها من ضعف وسخف؛ وهم يحاولون تمييع العلاقة بين التصوف والسنة، باسم التصوف السني، أو التصوف السلفي، أو ما شابه ذلك من تركيب وتلفيق.
مصورين القضية على أنها لا تتجاوز حد القدرة على التمييز بين الدخلاء والأصلاء، أو بين السفهاء والصلحاء.
معتمدا -بحمد الله- في دحض ذلك على نقول شيوخهم المعتبرين والمشهود لهم بالإمامة في تصوفهم السني المزعوم.
ومحذرا لهم -في نفس الوقت- من خطر التغافل عند التحقيق من تجاهل مسألة أن التصوف منهج يشتمل على أصول وقواعد ثابتة، يعتمدها الصوفي في تعامله مع الكتاب والسنة؛ يتحرك في مجالها ولا يخرج عن إطارها. مما يجعل كل فصل بين كلام الصوفي عن نظامه المعرفي ومرجعيته في التفكير هو خلل منهجي، وتفتيت للتصوف وتجزيء له، لا يقع فيه إلا مخدوع أو مخادع يريد إبعاد القارئ عن إدراك طبيعة التصوف وحقيقته.
فعلى سبيل المثال جاء ضمن «برنامج تأهيل أئمة المساجد في إطار خطة ميثاق العلماء» اللقاء السادس عشر تحت عنوان أركان التصوف ما نصه:
(خامسا: ترك الاختيار: وهو المعبر عنه بالرضا، قال الجنيد: الرضا ترك الاختيار. ومعناه: رضا العبد بما اختاره الله له، وعدم معارضة اختيار الله باختياره هو، لأن اختيار الله أفضل. فالمراد بترك الاختيار: ترك اختيار العبد، والاستغناء عنه باختيار الله تعالى، والاستسلام لكل ما اختاره الله تعالى وقدره وقضاه، والرضا به والفرح به لأنه من اختيار الخالق عز وجل).

وهذا مفاده من منطوق القول أن ركن “ترك الاختيار” في اصطلاح أهل التصوف حسب توجيه القيمين على البرنامج، المراد به عندهم هو أن الطاعة المطلقة وترك الاختيار والتسليم بالكلية مع انشراح القلب لا يكون إلا لرب العالمين. وهذا الأمر هو من بدائه إيمان المؤمن ومسلمات اعتقاد الموحد، لما يستقر في وجدانه من أوصاف جلال الله وعظمته، وما يتصف به سبحانه من كمال مطلق.
فلا تجد هواه في غير أمر الله، ولا تكون له الخيرة إلا فيما قضى الله، ولا يكون مراده إلا فيما يوافق مراد الله، فلا إرادة له إلا لما يريده منه مولاه سبحانه، ولا يتحرك حركة أو يعمل عملا أو يأتمر أمرا إلا بأمره، يستسلم لربه استسلاما كاملا تحقيقا منه لمعنى العبودية التي هي غاية وجوده ووظيفة حياته، لقوله تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}(1).
وهذا الأمر واضح في نفس المؤمن وضوحا، ومستيقن في حسه استيقاناً قاطعا لا يخالجه معه شك ولا ريبة. لكن موضع الشك هو في ربط تعليق القيمين على البرنامج بقول الجنيد، ومثار الريبة هو في مدى صحة نسبة هذا المعنى الإيماني المتضمن في التعليق إلى أهل التصوف.
فالجنيد صوفي بالاتفاق بل هو سيد القوم وكبيرهم، ولا ينبغي تفسير كلامه بعيدا عن أصول تصوفه وقواعد مذهبه.
لا سيما أن قوله: “الرضا ترك الاختيار” هو قول مجمل غير واضح المعنى، وحمَّال وجوه، يمكن تناوله بلسان الحق، كما يمكن تناوله بلسان الباطل. وحمله على مضمون تعليق القيمين على برنامج تأهيل أئمة المساجد أو على أي معنى معين لا يتماشى مع مدلول وأصول مذهب الجنيد وتوضيحات المتصوفة، أمر غير مسلم، يحتاج دون محاباة إلى دليل.
فهذا أبو حامد الغزالي صاحب كتاب إحياء علوم الدين، وهو أحد من أشاد بتصوفه أصحاب كتاب (التصوف السني وأعلامه بالمغرب) منشورات المجلس العلمي المحلي بالقنيطرة، وقد تم توزيعه على الخطباء والوعاظ. يقول: “فكذلك المريد يحتاج إلى شيخ وأستاذ تربية يقتدي به لا محالة، ليهديه إلى سواء السبيل، فإن سبيل الدين غامض وسبل الشيطان كثيرة ظاهرة، فمن لم يكن له شيخ يهديه قاده الشيطان إلى طرق لا محالة…
فمعتصم المريد، بعد تقديم الشروط المذكورة، شيخه، فليتمسك به تمسك الأعمى على شاطئ النهر بالقائد، بحيث يفوض أمره إليه بالكلية ولا يخالفه في ورده ولا صدره، ولا يبقي في متابعته شيئا ولا يذر، وليعلم أن نفعه في خطأ شيخه لو أخطأ أكثر من نفعه في صواب نفسه لو أصاب…”(2).
وهذا كلام يكشف بمنطوقه عن مستور قول “الرضا ترك الاختيار”، والمعبر عنه في صريح قول الغزالي شريك الجنيد في التصوف (السني)، بتفويض الأمر بالكلية وعدم المخالفة.
والمراد به كما هو جلي رضا المريد بما اختاره الشيخ، وعدم معارضة اختيار الشيخ باختياره هو وليس المراد اختيار الله. فالمراد بترك الاختيار في صريح منطوق الغزالي الحجة هو: ترك اختيار المريد، والاستغناء عنه باختيار الشيخ. فتنبه.
بل تأنى وتأمل فهذا أحمد التجاني سيد الطائفة التجانية دفين مدينة فاس، يقول بعد ذكره لأوصاف ومقامات الشيخ الواصل: “فهذا هو الشيخ الذي يستحق أن يُطلب، ومتى عثر المريد على من هذه صفته، فاللازم في حقه أن يلقي بنفسه بين يديه كالميت بين يدي غاسله، لا اختيار له ولا إرادة ولا إعطاء له ولا فائدة… ومتى أشار عليه بعمل فليحذر من سؤال بلم؟ وكيف؟ وعلام؟ ولأي شيء؟ فإنه باب المقت والطرد”(3).
وكذا السهروردي يقول عند ذكره أوصاف المريد الصادق: “ولا يكون هذا إلا لمريد حصر نفسه مع الشيخ وانسلخ من إرادة نفسه، وفنى في الشيخ بترك اختيار نفسه، فبالتآلف الإلهي يصير بين الصاحب والمصحوب امتزاج وارتباط بترك الاختيار”(4).
هذا هو المدلول المطلوب عند تعبير الصوفية عن مرادهم بـ”ترك الاختيار”، والمراد به عندهم هو أن يثق المريد بشيخه ثقة تترجمها الطاعة المطلقة، حيث لا يظن بما يفعله شيخه إلا الحق، ولا يعتقد فيما يصدر منه إلا الصواب. وهذه نُقول أحد أئمتهم تشير بمنطوقها ومدلولها إلى عكس ما يشير إليه تعليق القيمين على برنامج التأهيل من إخلاص الطاعة لله دون ما سواه. وهذا أسلوب فيه من التغرير بأئمة المساجد يقصد من ورائه إحسان الظن بالتصوف والترويج له.
إسمع إلى الجيلي وهو يقول:
وكن عنده كالميت عند مغسل يقلبه كيف يشاء وهو مطاوعه(5)
كما قد عقد القشيري بابا خاصا في رسالته بعنوان: “حفظ قلوب المشايخ وترك الخلاف عليهم”. وهذا السرهندي يقول: “وما لم يجعل المريد نفسه فانيا في رضى المرشد لا ينال نصيبا من مرضاته سبحانه وتعالى”(6). مع أن هذا الكلام لا يحتاج إلى تعليق، فالمرجو يا إمام المسجد أن تقف مع كلمة “فانيا”.
وهذا عبد القادر الجيلاني يقول: “من لم يعتقد في شيخه الكمال لا يفلح على يديه أبدا”(7).
وكلها تدل على معنى واحد تتداوله الصوفية ويعبرون عنه بـ”ترك الاختيار” والمراد به عندهم عبادة المريد شيخه.
وإلا فهل من مطعن في تصوف الغزالي والتجاني والجيلي والجيلاني والقشيري…؟
وهل من تحذير من كتاب الإحياء والجواهر والرسالة القشيرية…؟
بل هل من فرق بين تصوف الجنيد وتصوف هؤلاء؟!!!
لعل فيما تقدم كفاية وغناء والحر تكفيه الإشارة.
ــــــــــــــــــ
(1) سورة الذاريات الآية 56.
(2) إحياء علوم الدين 3/100.
(3) جواهر المعاني 2/185.
(4) عوارف المعارف ص:70.
(5) تنوير القلوب في معاملة علام الغيوب، لمحمّد أمين الكرديّ الأربيلي، ص:528.
(6) المكتوبات 2/111.
(7) الأنوار القدسية في معرفة القواعد الصوفية ص:7.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *