فهم المتعلم عند علماء المسلمين من إعداد: الدكتور محمد أبوعام أستاذ مادة التربية الإسلامية

أدرك المربون المسلمون في وقت مبكر أن فهم الطفل أساس لنجاح تعليمه. قال ابن سينا في القانون: “ويجب أن تكون العناية مصروفة إلى مراعاة أخلاق الصبي؛ وذلك بأن يحفظ كي لا يعرض له غضب شديد أو خوف أو غم أو سهر؛ وذلك بأن يتأمل كل وقت وما الذي يشتهيه عليه. وفي ذلك منفعتان أحدهما لنفسه والثانية لبدنه؛ إذ ينشأ من طفولته حسن الأخلاق تبعا لمزاجه وحسن الأخلاق يحفظ الصحة للنفس والبدن جميعا”.
وانطلاقا من هذه المطالبة بوجوب فهم الطفل اشترطوا البدء بتفهم بيئته الاجتماعية وبخاصة بيئته العائلية. جاء في كتاب “الإرشاد والتعليم”:
(والطفل صورة عائلته فكل ما فيها من خير وشر وكل ما سمعه ورآه ينطبع فيه، ولهذا كان جهد الأمهات من أهم الأمور في تربية الأبناء، ومن ربى ماله ولم يرب ولده فقد ضيع الولد والثروة. وتربية الفضائل لا يمكن أن تكتسب في المدارس بل تجب ممارستها مع الطفل من يوم يعي الخطاب ويفهم الكلام وأول من يطلب منهم القيام بهذه الوظيفة هم طبعا الذين يعاشرون الطفل معاشرة مستمرة، والذين يؤثرون عليه بأعمالهم وأقوالهم وسلوكهم ثم إذا أضفنا ما تحتاجه هذه التربية من العناء والصبر والحنو والمحبة الخالصة حكمنا بأنها لا تتم بواسطة من أنتجتهم الفطرة الإلهية لهذه المأمورية العالية وهم الوالدان.
ولم يفتهم أثر الأقران بعضهم في بعض، ودور العلاقات الشخصية التي يدخل فيها الطفل مع أصحابه باعتبارها مصدرا مهما من مصادر التأثير في نشأته ونموه النفسي والأخلاقي، فطالبوا أن يكون مع الصبي في مكتبه صبية من الأولاد؛ حسنة آدابهم مرضية عادتهم؛ فإن الصبي عن الصبي ألقن وهو عنه آخذ وبه آنس.
وانفراد الصبي الواحد المؤدب أجلب الأشياء إلى ضجرها فإذا راوح المؤدب بين الصبي والصبي كان ذلك أنفى السآمة وأبقى للنشاط وأحرص للصبي على التعلم والتخرج فإنه يباهي الصبيان، والمحادثة تفند انشراح العقل وتحل منعقد الفهم، لأن كل واحد في أولئك إنما يتحدث بأعذب ما رأى وأغرب ما سمع فتكون غرابة الحديث سببا للتعجب منه والتعجب منه سببا لحفظه وداعيا إلى التحدث به.
ثم إنهم يترافقون ويتعاوضون الزيارة ويتكارمون ويتبادلون الحقوق وكل ذلك من أسباب المباراة والمباهاة والمساجلة والمحاكاة وفي ذلك تهيب لأخلاقه وتحريك لهمسهم وتمرين لعاداتهم).
على أن العناية ببيئة الطفل العائلية والمدرسية لم تقدهم إلى التزمت في مراقبة الطفل وحرمانه من حقوقه الطبيعية في اللعب والمرح.
روي أن أبا القاسم عبد الله بن محمد سأل أحد معلمي عصره وهو معيقب بن أبي الأزهر قال له: ما حال صبيانكم في الكتاب؟ فأجاب معيقب: ولع باللعب كثير. فقال أبو القاسم: إن لم يكونوا كذلك فعلق عليهم التمائم.
وقال مؤلف كتاب “الإرشاد والتعليم”: (ومن العجب أن يفرح الناس بالأطفال القليلي الحركة البعيدين عن اللعب ويعتبرونهم عقلاء متزنين ويتوسموا فيهم الخير، ولم يعلموا أن الأطفال الذين طبعوا على السكون وعدم الحركة لابد أن يكونوا مصابين بأمراض جسمية أو عقلية؛ بحيث ينتهي أمرهم إلى ضعف الحياة وكدر العيش إذا لم يأخذوا من الصغر بالرياضة والحركة وأبنية أجسامهم).
ومن لطائف ما اهتدوا إليه في هذا المجال هو وعيهم لحساسية الطفل ضد التمييز في المعاملة بينه وبين أقرانه؛ لذلك طلب ابن جماعة المعلمين ألا يظهروا “للطلبة تفضيل بعضهم على بعض عندهم في مودة أو اعتناء؛ مع تساويهم في الصفات من سن أو فضيلة أو تحصيل أو ديانة، فإن ذلك ربما يوحش منهم الصدر وينفر القلب.
فإن كان بعضهم أكثر تحصيلا أو أبلغ اجتهادا أو أحسن أدبا فأظهروا إكرامه وتفضيله لتلك الأسباب فلا بأس بذلك لأنه ينشط ويبعث على الاتصاف بتلك الصفات”.
كذلك أدركوا أن العقوبة التربوية يجب أن تكون عقوبة مربية بمعنى أنها يجب أن تكون ذات طبيعة بناءة تتوخى الإصلاح وليس تدمير إحساس التلميذ بكرامته واحترامه لنفسه.
ومن هنا اعترف الغزالي للمعلم بحقه في زجر المتعلم عن سوء الأخلاق ولكن بطريق التعويض ما أمكن، ولا يصرح وبطريق الرحمة لا بطريق التوبيخ، فإن التصريح يهتك حجاب الهيبة ويورث الجرأة على الهجوم ويهيج الحرص على الأضرار.
وذهب ابن سينا مذهبا مقاربا في العقوبة التربوية حين طالب المعلم أن يجنب المتعلم مقابح الأخلاق وينكب عنه معايب العادات بالترهيب والترغيب والإيناس والايحاش وبالإعراض والإقبال، وبالحمد مرة وبالتوبيخ أخرى ما كان وافيا. فإن احتاج إلى الاستعانة باليد لم يحجم عنها وليكن أول الضرب قليلا موجعا كما أشار به الحكماء؛ فإن الضربة الأولى إذا كانت موجعة ساء ظن الصبي بما بعدها واشتد منها خوفه، وإذا كانت الأولى خفيفة غير مؤلمة حسن ظنه بالباقي فلم يحفل به.
وفي نفس هذا الإطار من التفكير رتب ابن جماعة العقوبة التربوية على أربع درجات من الشدة، فإذا صدر من التلميذ ما لا يليق من ارتكاب محرم أو مكروه أو ما يؤدي إلى فساد حال أو ترك اشتغال أو إساءة أدب في حق الشيخ أو غيره أو كثرة كلام لغير توجيه أو فائدة أو حرص على كثرة الكلام أو معاشرة من لا تليق عشرته أو غير ذلك؛ اتخذ المعلم الإجراءات التالية:
– عرض بالنهي عن ذلك وبحضور من صدر منه غير معرض به ولا معين له.
– فإن لم ينتهي نهاه عن ذلك سرا ويكتفي بالإشارة مع من يكتفي بها.
– فإن لم ينتهي نهاه عن ذلك جهرا ويغلظ القول عليه إن اقتضاه الحال لينزجر هو وغيره ويتأدب كل سامع.
– فإن لم ينتهي فلا بأس حينئذ بطرده والإعراض عنه إلى أن يرجع ولاسيما إذا خاف على بعض رفقائه وأصحابه من الطلبة موافقته.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *