لعل عادة القوم وإلفهم في فتح باب المعطوفات والاسترسال في ذكر رسوم السادة الأشاعرة، هو أسلوب تستنكفه أصول المطارحة وأدبيات المحاججة ذلك أن الرجال يعرفون بالحق لا بهم يعرف وإن كان هذا لا يمنع من القول أنهم وسائط بين الحق ومعرفته واعتناقه، لكنها وساطة لم تصنع جوهر الحق ولم تسهم في تشكيل ملحظه ولم تبلغ مطلق الدلالة عليه إن كانت كان وإن غابت غاب، لأن الحق في هذا المقام موضوع التدافع هو محض وحي يوحى ومحض قول قائل لا ينطق عن الهوى، وفي هذا استدراك على من عاند بأسلوب النسخ واللصق عند قوله تأسيسا في غير تأس «يعرف الرجال بالحق كما يعرف الحق بالرجال»، مستدلا بقولة للعلامة قاطع دابر البدعة الإمام الشاطبي وإن كان يجدر به في باب التجرد والإنصاف والأولى اجترار موقف الشاطبي في اعتصامه من التصوف والطريقة التيجانية قبل العقائد الكلامية وإن كانت قواعد الإمام مطردة في نسف الأمرين.
ومع أن الاعتقاد سيبقى قائما في كون الاسترسال في ذكر الرجال دون الوقوف على أصول مذهب ما والتعريج بذكر مسالكه وتفاصيله هو أسلوب تأباه أصول المطارحة وقواعد الإفحام بالدليل لا بالتهليل، إلا أن هذا لا يمنع في غير خصاص أو شح إعمالا لعدل «هذا بذلك وهذه بتلك»، أن نرد بالمثل فإن من ورائنا أعلاما وأئمة لو وضع الواحد منهم في الكفة المقابلة لرجح الكيل وبلغت القلوب الحناجر وخفت موازين القوم وتطايرت صحف الشبهات:
نذكر منهم الإمام الليث بن سعد إمام أهل مصر، والإمام الأوزاعي إمام أهل الشام، والإمام إسحاق بن راهويه إمام خرسان، والإمام سفيان الثوري إمام أهل العراق، والإمام المجاهد عبد الله بن المبارك، وأئمة البصرة في زمانهم: حماد بن سلمة، وحماد بن زيد، وإمام سمرقند الحجة عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، وأئمة اليمن: الحفاظ معمر بن راشد الأزدي، وعبد الرزاق الصنعاني، وأئمة الحديث الجهابذة الراسخين: علي بن المديني، وأبو زرعة الرازي، وأبو حاتم الرازي، ويحيى بن معين، ويحيى القطان، وشعبة بن الحجاج الأزدي، وإمام الدنيا في زمانه الإمام البخاري صاحب الصحيح وصحيحه يشهد له بذلك، وتلميذه الحافظ مسلم بن الحجاج صاحب الصحيح أيضا، وبقية أصحاب الكتب الستة: أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وخاتمة الجهابذة إمام المسلمين في زمانه أبو الحسن الدارقطني وخليفته من بعده الخطيب البغدادي، وإمام الأئمة ابن خزيمة والإمام بن حبان، والإمام الحاكم وغيرهم كثير وكثير..
ولو استزادنا مستزيد زدناه فإنه معين لا ينقطع وصله ولا ينضب ماؤه في مقابل ما يحتج به علينا من أعيان قلة من المتكلمين والفلاسفة الذين عاد أغلبهم عن طريقته ليموت على عقيدة عجائز نيسابور.
هذا ويهمنا أن نذكر أن الإمام مالك لم يكن أشعريا بله متكلما ولا تلامذته من بعده الذين أخذوا عنه كابن القاسم وسحنون وبشر بن عمر الزهراني وكذلك الذين رووا عنه الموطأ كالإمام يحيى الليثي وأبي مصعب الزبيري ومحمد بن الحسن الشيباني، وكذلك أتباع مذهبه من الأئمة الكبار أمثال: إسماعيل بن إسحاق القاضي، والقاضي عبد الوهاب المالكي، وأبو عبد الله المشهور بابن زمنين، ومسك الختم لا الختام حافظ المغرب إمام الأندلس أبو عمر بن عبد البر رحمة الله على الجميع.
ويبقى السؤال الذي نحب أن نوقع به ذيل هذا الاسترسال في مقابل ما يزايد به علينا المزايدون عند كلامهم عن ثوابت المملكة في إشارات ماكرة ترمز من بعيد إلى كون السلفيين (أهل السنة والجماعة) يشذون عن هذه الثوابت ويشقون بذلك عصا الطاعة وهم من هم؟
هم الذين تعلمنا في دورهم أن الرد في كل أمور الدين لا يكون إلا لكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، كما تعلمنا منهم حفظ الأمن والمحافظة على استقرار البلاد..
سؤالي هو: لماذا لم يتم استيعاب الحياة التدينية لإمام دار الهجرة عقيدة وفقها وسلوكا؟
أم تراه -وحاشاه- كان سيء السلوك فاسد العقيدة صحيح الفقه فقط.
والأشاعرة لا يعظمون العقل كما يتوهم البعض وإنما الصواب أن القوم يعظمون أدلتهم وقواعدهم، ولذلك لما عظموا هذه الأدلة بدعوى أن العقل دل عليها في الاعتقاد خذلهم الله في المنهج والنبوات والكرامات فصدقوا الخزعبلات وارتموا في محاضن ظلم الشرك باسم التصوف ومقامات الإحسان.
والعجيب أن تجد الأشاعرة يفعلون هذا وهم الذين يحرصون على نفي الشبيه عن الله تعالى في صفاته وأفعاله بينما شقهم الصوفي مولع بتشبيه الله بخلقه من خلال حكاياتهم ومناماتهم التي تتسفل في جعل الخالق كما لو كان مخلوقا مثلهم يخالطهم ويجالسهم ويحادثهم يقظة لا مناما.
والغرض من ذكر هذا الكلام محاولة إيجاد تفسير لظاهرة استفحال عبادة القبور في صفوف الأشاعرة بعد تفشي الصوفية فيهم بالاطراد حيث لا تكاد تجد أشعريا إلا وهو معتنق لطرق من طرق التصوف والقبورية، ولعل هذا يجد مسوغه في كون من بنى عقيدته على علم المنطق الأرسطي الوثني عوقب جزاء وفاقا بتفشي وثنية عبادة المقبورين من الأقطاب والأبدال وذيل الأرباب من دون الله طويل الذيل مرسل المعطوفات.
وقد صرح الرازي بأن فلاسفة اليونان كانوا يستمدون الفيوض من القبور وأهلها إذا اعترتهم مشكلة من المشكلات، وكان الفلاسفة من تلاميذ أرسطو إذا دهمتهم نازلة ذهبوا إلى قبره للحصول على المدد والفيض وهكذا كانوا يعبدون القبور وأهلها.
فما أشبه ذلك بهذا الذي نراه في صفوف المتمشعرين الجدد حيث يتنازل القوم عن كبرهم وعنادهم السالف ذكره في مقام الاعتقاد، ليتجاوز هذه المرة ذلك الدكتور والأصولي والنحوي النحرير في تسفله السلوكي عتبة التواضع ليمعر ناصيته بذلٍّ وإنابة أمام أعتاب المقبورين وأديرة الأحياء من شيوخ التصوف القبوري ليأخذ الورد عن جاهل لا يعرف من العلم رسما ولا اسما، وربما احتاج عند زيارته لكي يحشر يمينه في جيبه فيدفع النفيس في مهر سبحة صك الغفران وبطاقة الجنان؛ قيل أن حبات عقدها تعدل ما تعدل في العد والأجر والثواب، وكفى بهذا الضلال في الفرع دليلا على اعوجاج الأصل كما قيل «لا يستقيم الظل والعود أعوج» نسأل الله العفو والمعافاة.