اجتاز المسلمون في القرن الرابع عشر الهجري الذي ودعناه، امتحانا عسيرا لم يسبق لهم أن عرفوا مثله في تاريخهم الطويل، فقد تمت أثناءه السيطرة على بلاد الإسلام وسقطت العواصم العربية الكبرى مثل دمشق وبغداد وتونس وفاس في قبضة الغزاة الأوربيين، وانهارت الخلافة العثمانية التي كانت تجمع شمل المسلمين وتقيم لهم كيانا دوليا مهيبا في العالم على ضعفها وتخلفها، وزرع في جسم العالم العربي عضو غريب عنه كان كالسرطان الخبيث الذي لا علاج له فأشاع فيه الأدواء والعلل من وهن وضعف وتخلخل وتخالف، وهو دويلة “إسرائيل” التي استولت على أرض فلسطين، وحاربت الدول العربية مرارا وهزمتها في كل مرة حتى في المرة التي قيل إن هذه الدول انتصرت عليها، ولم تكتف بما أقطعه أياها الغرب المسيحي والشرق الشيوعي من أرض فلسطين، بل وضعت يدها على أرض مصرية وسورية وأردنية وهي تعمل على أن تنقص لبنان من أطرافه، وأخيرا ضمت إليها مدينة القدس وأعلنتها عاصمة أبدية إليها وعطلت بذلك على المسلمين الرحلة إلى المسجد الأقصى ثالث المساجد التي لا تشد الرحلة في الإسلام إلا إليها.
هذا في الناحية السياسية، في الاقتصاد لم يكن الحال بأحسن من السياسة بحكم تبعية الاقتصاد للسياسة، فقد تنازل المسلمون عن أنظمتهم وتجهيزاتهم الاقتصادية والمالية وأصبحوا يدورون في فلك الاقتصاد الغربي، وانتهت خيراتهم وثرواتهم الطبيعية بكيفية فيها كل الغبن عليهم واضمحلت الصناعة والانجازات الضرورية في العالم الإسلامي، وصارت البلاد الإسلامية كلها سوقا مفتوحة لتصريف المنتجات الأجنبية ابتداء من الخيط والإبرة إلى المدفع والطائرة، والأدهى من ذلك كله أن المسلمين نسوا رسالتهم فخضعوا للمعاملات الربوية المحرمة في قانون الاقتصاد الإسلامي تحريما باتا، ذلك القانون الذي جاء بإصلاح عظيم في هذا الباب أنقذ الإنسانية في وقت ما، من تحكم أرباب رؤوس الأموال واستغلال صيارفة اليهود، فعوض أن يقف المسلمون في وجه التيار استسلموا له وبات كثير من قادتهم يعتقدون أنه لا نمو ولا ازدهار إلا باصطناع نظام الفائدة والربا المحرم.
وفي الحياة الاجتماعية وقع تفكك كبير في نظام البيت والأسرة، وضعفت العلاقات بين الأبناء والآباء وسائر القرابات، وقل الاحترام وانعدم التعاون وانتشر الانحلال الخلقي وعم التبرج والسفور السفيه، وشربت الخمر علنا وتناولها الآباء والأبناء مجتمعين، وصار المسلمون من منتجيها وبائعها، وفتحت المواخير في أكثر من بلد إسلامي بله المراقص والملاهي، واقتبست القوانين الأجنبية وحلت محل القوانين الشرعية، ومنها قانون الحريات العامة الذي عطل قاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأباح كثيرا من المفاسد حتى الردة والطعن في الدين وسائر المقدسات، وأحيلت اللغة العربية على التقاعد في التعليم والإدارة وأعطيت الأسبقية للغات الأجنبية وصار البعض يدعو إلى كتابة العربية بالحرف اللاتيني بدعوى قصور الحرف العربي عن القراءة الصحيحة.
موجة المستعمر
وإذا كانت هذه سلبيات القرن أو أهمها على الأصح، فالإنصاف يقتضينا أن نذكر بالمقابل إيجابياته، فلا ننس أن حركات تحريرية عظيمة قامت في البلاد الإسلامية لمواجهة المستعمر، وخاضت معارك ضارية ضده تارة بالقلم وأخرى بالسلاح، ونتج عنها استقلال معظم الشعوب العربية وغيرها من العالم الإسلامي في إفريقيا وآسيا، فملكت أمرها وانتصبت فيها حكومات نهضت بالتعليم والصحة والعمران، وأخذت من وسائل الحضارة الحديثة ما لقحت به حضارتها القديمة، والانجازات التي حققتها في هذا المجال مما لا يستهان به، ولكن روح القومية الضيقة التي تمكنت من هذه الشعوب فرقت بينها وجعلت بعضها عدوا لبعض، فلم تستفد الاستفادة الكاملة من نهضتها وتحررها من سيطرة الأجنبي، وجاء الغزو الفكري فمكن للفرقة أكثر مما فعلت القوميات المختلفة، وصار ولاء البلاد الإسلامية تابعا للمبادئ والأفكار والإيديولوجيات التي تتبناها وتحكم بمقتضاها، فمن مشرق ومغرب، ومن مذبذب بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، ولكن ولاءه قطعا ليس للإسلام ولا لعقيدته ولا لشريعته، وما كان يجمع بين الشعوب الإسلامية من عرب وغير عرب إلا هذا الولاء للإسلام وعقيدته وشريعته، وذلك إلى الأمس القريب جدا أي إلى نهاية الحرب العالمية الأولى وأوائل العشرينات، حين فشلت الثورة العربية الكبرى في إقامة دولة موحدة لها، وألغت تركيا الخلافة الإسلامية التي كانت هي سر عظمتها.
وهكذا كانت الايجابيات التي أشرنا إليها من مكاسب القرن لا تقاوم السلبيات المتجذرة فيه ولا أثر لها في إنقاذ الوضع الذي نشأ عنها..ومع أن الإلقاء بانكلترا في البحر أي إنهاء وجودها في العراق ومصر والسودان وهي في عنفوان قوتها أمر ليس بالهين، وإزاحة السيطرة الفرنسية عن سوريا ولبنان والمغرب العربي، وفرنسا هي تالية انكلترا في القوة والنفوذ، عمل يدعو إلى الإعجاب، إلا أننا نجد أنفسنا اليوم، ونحن أكثر وعيا وأشد قوة عاجزين عن إنهاء استهتار أمريكا بنا وتحكمها فينا، ونخاف من مواجهتها كما واجهنا الدولتين آنفتي الذكر، ولا أذكر “إسرائيل” فهي أخس من التفكير فيها لولا أمريكا بل إن عجزنا أكثر تمثلا في تجرؤ الاتحاد السوفيتي على اكتساح أفغانستان..
والخلاصة أننا نخرج من القرن الذاهب بمشاكلنا ونستقبل القرن القادم وحالنا على ما كان عليه بل أسوأ، فالغرب المسيحي ممثلا بأمريكا ما زال يتصرف بمصائرنا بالرغم منا، والشرق الشيوعي بزعامة روسيا يقطع أواصرنا حتى لا تقوم لنا قائمة، وأحسن القوم منا موقفا من يقول أمر بها ولم تسؤني،..ودولنا الناشئة عاجزة عن أن ترفع رأسنا عاليا وتخرج بنا من دوائر التخلف، لأنها دول متعددة وليست دولة موحدة، وما تعده من قوة توجه أولا إلى القمع الداخلي والتنازع فيما بينها، على أن بعضها لم يستنكف أن يكون أداة للشغب والتحرش بجيرانه وقومه حسبما توحي به إليه الجهات المختلفة التي تصطنعه وتحركه، ومنها “إسرائيل” ويا للخزي والعار، وأن من شر ما تبتلى به الأمم والشعوب أن يكون حكامها على غير عقيدتها فيحقروا بينها وبينهم هوة لا تردم ولا توصل بجسر مهما تكن قوته، فالعرب والمسلمون يريدون أن يكونوا إخوانا والحكومات تفرقهم وتخالف بينهم، ويريدون أن يبقوا مسلمين والحكومات تفرض عليهم مذاهب وأنظمة غير إسلامية، وهم لن يقاتلوا في سبيلها إلا إذا راجعت نفسها وعلمت أنها صاحبة دعوة وحاملة رسالة، عليها قبل كل شيء أن تعمل بها في نفسها وتستعد لتبليغها إلى غيرها كما تفعل الدول التي تغري باتباعها وترضى أن تكون ذيلا لها من شرقية وغربية…
رفض التبعية
وأعظم ما يجب أن ينبذه الحكام المسلمون من أذهانهم ويستبعدوه من سياستهم هو فكرة الاستتباع، فليس هناك شعب يقبل أن يكون موضع تجربة لسيطرة جديدة بعد أن نفض عنه غبار الخمول ورفض الاستعمار بجميع أنواعه، لكن العمل على إعادة الخلافة الإسلامية وإنشاء الولايات الإسلامية المتحدة أمر مرغوب فيه وحتمية حضارية وبرنامج واحد، يجب أن تتكتل الجهود وتحشد الطاقات لإبرازه للوجود بأي شكل من الأشكال التي يقتضيها العصر ولا تتصادم بالمعوقات المعروفة ولا يفرضه ماض ولا كثرة ولا أي اعتبار آخر إلا العمل والإخلاص والتضحية ونكران الذات، وبهذا يتمكن المسلمون من أداء رسالتهم وإنقاذ البشرية مما تتخبط فيه من ظلم وظلام، وتعود الحضارة الشرقية الإسلامية سيرتها الأولى من المزاوجة بين الروح والمادة؛ والدين والعلم؛ والدنيا والآخرة، ويومئذ يفرح المومنون بنصر الله، ويومئذ يعلو الحق ويزهق الباطل، ويومئذ يحل السلام في الأرض وتعم السعادة الناس.
هذه نظرتنا المستقبلية إلى القرن الخامس عشر الهجري الذي بدت طلائعه بما تحمله من تحديات لنا نحن المسلمين هي في جوهرها تحديات القرن الماضي، وأكثرها فيما نرى تعود إلى السياسة ومن السياسة تكونت..
فشوقي حين كان يعكس في شعره سياسة الباب العالي وأحداث الأستانة كان العالم العربي كله يردد شعره ويخلع عليه حلة أمير الشعراء، والمسلمون في الهند الذين كانوا كلما تحرشت بريطانيا العظمى بدولة الخلافة تحركوا فكبحوا جماحها، أعظم شاهد على ما نقول، فلما انحرفنا عن هذا الخط لم نحسن سياسة ولم ننم اقتصادا ولم نحم عرينا ولم نمسح عارا، بل جعلنا الأقوياء يفكرون في العودة وينفذ بعضهم الفكرة ويهدد بعضهم بالتدخل.
ونجعل ختام هذه الكلمة قوله تعالى: “وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً”.
مجلة دعوة الحق العدد 2 السنة 22 جمادى الثانية 1401/أبريل 1981
اختصار أحمد السالمي