جاء الأمر بالصلاة في آية مركبة، صيغت بطريقة شديدة الترهيب؛ حيث أشارت الآية إلى وصف من يترك الصلاة، فأمرت بالصلاة، وأشارت بالضد، حتى إن الحافظ ابن حجر في “الفتح” قال عن هذه الآية: “إنها من أعظم ما ورد في القرآن في فضل الصلاة؛ بسبب هذا الاقتران الترهيبي، حيث يقول الله تعالى: {منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين} (الروم:31).
قوله سبحانه: {منيبين إليه} يقال: أناب: إذا رجع العبد إلى الله، وقطع صلته بغير الحق سبحانه، فلا علاقة له بالخلق في مسألة العقائد، بل كل علاقته بالله. ومنه يسمون الناب؛ لأنه يقطع الأشياء، ويقولون: ناب إلى الرشد، وثاب إلى رشده، كلها بمعنى: رجع، وما دام هناك رجوع، فهناك أصل يُرجع إليه، وهو أصل الفطرة.
قوله عز وجل: {واتقوه} أصل التقوى أن يجعل العبد بينه وبين الشيء وقاية، والمراد هنا: أن يتقي العبد كل ما يُغضب الله سبحانه؛ وذلك يكون بترك ما أمر الله به، وفعل ما نهى عنه، وهذه الوقاية تتحقق باتباع المنهج الرباني: افعل، ولا تفعل.
قوله تعالى: {وأقيموا الصلاة} هذا أمر -وهو يفيد الوجوب والدوام- بالمداومة والمحافظة على الصلاة في مواقيتها ووَفْق كيفياتها المشروعة؛ فلا يليق بالمسلم، بل لا يجوز له، أن ينيب إلى الله، ويرجع إليه، ويجعله في باله، ثم ينصرف عن منهجه الذي شرعه، لينظم حركة حياته، فالإنابة وحدها والإيمان بالله لا يكفيان؛ بل لا بد من تطبيق منهج الله؛ لذلك كثيراً ما يجمع القرآن بين الإيمان والعمل الصالح: {وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات} (البقرة:25) {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات} (البينة:7).
على أن فائدة الإيمان وثمرته، بعد أن يؤمن العبد بالإله الحق، وأن منهجه هو الصدق، وأن فيه نفعه وسلامته في حركة حياته، وأنه الذي يوصله إلى سعادة الدارين، إنما يكون بالعمل والتطبيق.
قوله سبحانه: {ولا تكونوا من المشركين} يقول الطبري في تفسيره لهذه الآية: “ولا تكونوا من أهل الشرك بالله، بتضييعكم فرائضه، وركوبكم معاصيه، وخلافكم الدين الذي دعاكم إليه”. فإذا كان الله يجعل ترك الصلاة من أفعال المشركين، فكيف يرضى المسلم لنفسه أن يكون بهذه المنزلة؟!
وظاهر من هذه الآية -كما قال الشيخ السعدي- أن الله سبحانه خص من المأمورات الصلاة؛ لكونها تدعو إلى الإنابة والتقوى؛ لقوله تعالى: {وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} (العنكبوت:45) فهذا إعانتها على التقوى. وخص من المنهيات أصلها، والذي لا يقبل معه عمل، وهو الشرك، فقال: {ولا تكونوا من المشركين} لكون الشرك مضاداً للإنابة، التي روحها الإخلاص من كل وجه.
فالآية تطلب من المسلم المداومة على عبادة الله سبحانه، والمحافظة على إقامة الصلاة، والتذلل له، والإخلاص في الأقوال والأفعال، وعدم الاستهانة بذلك؛ لأن الاستهانة بما أمر الله به يؤدي بالعبد إلى الكفر بعد الإيمان، والشرك بعد الإسلام.
وقد يحسب كثير من الناس أنه بمجرد أن يذهب إلى الصلاة -حتى لو كان متأخراً ومتثاقلاً- قد ارتفع عنه الوعيد والتهديد الذي جاء في القرآن، ولا يعلم هذا المغرور أن الله ذكر عن المنافقين أنهم يصلون، قال تعالى: {وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا} (النساء:142)، وقال سبحانه: {ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى} (التوبة:54) ففي هاتين الآيتين وصف سبحانه المنافق بأنه يأتي للصلاة، ولكن بتكاسل.
ويُخشى على المسلم المتكاسل في الصلاة، المستثقل لها، أن يكون طيلة حياته إنما كان يمارس صلاة المنافق! فكم ستكون صدمة فاجعة، إذا رأى صلاته عند لقاء الله محسوبة عليه من صلاة المنافقين، فتكون عليه وبالاً، وهو يظنها نجاة!
والكفار وهم يساقون إلى جنهم -أعاذنا الله منها- يُشنَّع عليهم بتركهم للصلاة، قال تعالى: {والتفت الساق بالساق، إلى ربك يومئذ المساق، فلا صدق ولا صلى، ولكن كذب وتولى} (القيامة:29-32).
وترى المرء يتكلف أعمالاً صالحة من صيام، وحج، وزكاة، ونحوها، ثم يفرط في أمر صلاته، فيخسر كل هذه الأعمال، وتذهب عليه هباء منثوراً، روى البخاري عن أبي المـَلِيح، قال: كنا مع بُرَيدة في غزوة في يوم ذي غيم، فقال: بكروا بصلاة العصر؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من ترك صلاة العصر، فقد حبط عمله).
وحينما يكون الإنسان على فراش الموت، ويستعد لمغادرة هذه الدنيا الفانية إلى الدار الباقية، فإنه يوصي بأهم الأمور؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم من كمال حرصه على أمته، وهو على فراش الموت أخذ يردد، كما روى أبو داود بسند جيد عن علي رضي الله عنه، قال: كان آخر كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الصلاة الصلاة، اتقوا الله فيما ملكت أيمانكم).
إن الصلاة -وَفْق ميزان الشرع- يجب أن تكون أهم قضية عملية في حياة المسلم، وما نشاهده اليوم من تفريط أو تقصير في أداء الصلاة، يستدعي ثورة تصحيحية في وضع الصلاة في حياتنا.