ما اختلف فيه المفسرو ما اختلف فيه المفسرون اختلاف تنوع:
هناك ألفاظ اختلف فيها المفسرون اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد، فكانت جامعة لجميع المعاني التي قيلت فيها.
ولابد من إعطاء لمحة عن المقصود باختلاف تنوع واختلاف تضاد، فأقول: إِن أنواع الافتراق والاختلاف في الأصل قسمان: اختلاف تنوع، واختلاف تَضاد:
واختلافُ التنوع على وجوه
منه ما يكون كل واحد من القولين أو الفعلين مشروعا، كما في الْقراءات التي اختلف فيها الصحابة رضي اللَّهُ عنهم، حتى زجرهم النبي صلى الله عليه وسلم، وقَال: “كلاكما محسن”.
ومنهُ ما يكون كل من القَولين هو في المعنى القَول الآخر، لكن الْعبارتان مختلفَتان، كما قَد يختلف كثير من الناس في ألفاظ الحدود، وصوغ الأدلة، والتعبير عن المسميات، ونحو ذلك. ثم الجهل أو الظلم يحمل على حمد إِحدى المَقَالتين وذمّ الأُخرى والاعتداء علَى قَائلها! ونحو ذلك.
وَأَما اخْتِلافُ التَّضادِّ، فَهو القولان المتنافيان، إما فِي الأصول، وإِما في الْفروع عند الْجمهور الذين يقولون: الْمصيبُ وَاحد.
وَالخطبُ فِي هذا أَشَدّ، لأن القَولين يتنافيان، لَكِنْ نجد كثيرًا من هؤلاء قَد يَكون الْقَول الْباطل الذي مع منازعه فيه حق ما، أَو معه دلِيل يقتَضي حَقًّا ما، فَيَرُد الحق مع الباطل، حتى يَبْقَى هذا مبطلا فِي البعض، كما كان الأوّل مُبطلا في الأصلِ().
فالفرق إذن بين اختلاف التنوع واختلاف التضاد: أن اختلاف التضاد لا يمكن الجمع فيه بين القولين؛ لأن الضدين لا يجتمعان.
واختلاف التنوع يمكن الجمع فيه بين القولين المختلفين؛ لأن كل واحد منهما ذكر نوعاً، والنوع داخل في الجنس، وإذا اتفقا في الجنس فلا اختلاف.
وعلى ذلك فاختلاف التضاد معناه: أنه لا يمكن الجمع بين القولين لا بجنس ولا بنوع ولا بفرد من باب أولى، واختلاف التنوع معناه: أنه يجمع بين القولين في الجنس ويختلفان في النوع، فيكون الجنس اتفق عليه القائلان، ولكن النوع يختلف، وحينئذ لا يكون هذا اختلافاً؛ لأن كل واحد منهما ذكر نوعاً كأنه على سبيل التمثيل
وإذا وقع هذا الاختلاف في مفردة فإن معناه أنها جامعة لكل هذه المعاني المذكورة، ومن ذلك ما لي:
1ـ لفظ كدأب في قوله تعالى: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ آل عمران:11
قال ابن عباس: “كدأب آل فرعون” كفعل آل فرعون
وفي رواية قال: كصنيعهم.
وقال الضحاك: كعمل آل فرعون
وقال عطاء والربيع: كسنة آل فرعون.
وقال عكرمة ومجاهد والأخفش: كأمر آل فرعون وشأنهم.
وقال النضر بن شميل: كعادة آل فرعون.
فانظر كيف استوعبت هذه الكلمة القرآنية المعجزة هذه الألفاظ المترادفة، فكأنه قال: كصنيع آل فرعون وفعلهم وشأنهم وعادتهم وسنتهم، فأغنى عنها كلها لفظ “دأب”، إضافة إلى فصاحته وعذوبته والتئامه مع ألفاظ جملته().
2ـ لفظ المخبتين في قوله تعالى: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ) الحج:34.
قال مجاهد: “المخبتين” المطمئنين.
وقال الضحاك وقتادة: المتواضعين.
وقال السدي: الوجلين.
وقال عمرو بن إدريس: “المخبتين” الذين لايظلمون، وإذا ظُلموا لم ينتصروا.
وقال الثوري: “المخبتين” المطمئنين الراضين بقضاء الله، المستلمين له.
وقال النخعي: “المخبتين” المخلصين.
والمخبتين جمع مخبت، وأصله مشتق من الخبت، وهو المطمئن من الأرض، وأخبت الرجل قصد الخبت أو نزله، نحو أسهل وأنجد، ثم استعمل الإخبات استعمال اللين والتواضع()
وهذا المعنى ملحوظ، وظاهر في ما تقدم من أقوال في تفسير “المخبتين”، لاسيما ما قاله مجاهد، والضحاك، وقتادة، والثوري.
وتأمل كيف تنوعت هذه الأقوال وترادفت في تفسير المخبتين، فحمل هذا الوصف الجامع معاني: التواضع والاطمئنان والسماحة والوجل والرضا والاستسلام والإخلاص لله تعالى. وهو من أعظم الشواهد على عظمة هذا الكتاب وجزالة ألفاظه وكثرة معانيها().