قصد الشّرع من تشريع الأحكام إلى ضبط الغرائز وفقها، لأنّ في تركها تعطيل للغاية من الخلق، لذلك وجب صرف الجهد لأجل التّحكم فيها وتربية الأبناء على ذلك ضمانا لسلامة نشأتهم.
ومن ضروب الغرائز المخلوقة في الإنسان: نزوعه نحو إرواء حاجته إلى الجنس، وهو من النّوازع التي يتأخر نضجها وبها تُعرف صفة البلوغ فيه. ومراد الشّرع بالتّربية الجنسية: «تعليم الولد وتوعيته ومصارحته منذ أن يعقل القضايا التي تتعلّق بالجنس وترتبط بالغريزة وتتّصل بالزّواج.. فإن شبّ وترعرع وتفهّم أمور الحياة عرف ما يحلّ وعرف ما يحرُم، وأصبح السّلوك الإسلاميّ المتميّز خلقا له وعادة، فلا يجري وراء شهوة، ولا يتخبّط في طريق تحلّل..»[1].
ونضيف لتعريف عبد الله ناصح علوان: كذا تمرينه حتى قبل أن يعقل على العادات التي تحفظ له غريزته من الانحراف لأنّه يبدأ أحيانا منذ الطّفولة المبكّرة، لكن يسهل تقويمه إن قُوّم في حينه؛ وهذه وظيفة الوالدين أساسا.
لقد اعتنى الإسلام بتهذيب الغريزة الجنسية أيّما عناية، وبثّ لها في القرآن الكريم والسّنّة النبويّة الشّريفة، في سياقات متنوّعة، نصوصا تحمل أحكاما تضبطها، فهو لم يتركها هملا تسير كالحيوان وراء نزواتها، ولم يضيّق عليها فيكبتها فتتفجّر في صورة عقد نفسية وصراعات داخلية مع الذّات، وإنّما أرشدها، بمنهج متكامل، إلى سبيل وسط يحصل فيه الإشباع الذي لا يتنافى مع وظيفة العبادة والإعمار.
وقوام هذا المنهج الرّبانيّ: أوامر ونواه؛ أوامر تحفظ هذه الحاجة من جهة الوجود، تنمّيها وتزكّيها وتوفّر على المؤمن فضول الطّاقة التي يحتاجها الشابّ في بناء مستقبله ومستقبل أمّته، ونواه تحفظها من جهة العدم، تمنعها من الوقوع في الفاحشة وتزجرها حين الوقوع فيها تأديبا لها وعبرة لغيرها. والذي يقع عليه عبء تطبيق هذا المنهج أساسا هما الوالدين أو الأسرة؛ لأنّها القاعدة التي ينطلق منها الطّفل وإليها يعود في تعامله مع مؤسّسات التنشئة الاجتماعية الأخرى. وتتجلى أهمّ معالم هذا المنهج فيما يلي:
- ربط الطّفل بالله تعالى؛ وهو السّبيل لاستشعار رقابته سبحانه والتزام أحكامه، فقوّة الإيمان باعثة على صلاح الأعمال، وأكبر وازع للمرء هو دينه ومراقبته لربّه. وكلّما سلمت العقيدة سلم العمل، وكلّما متن بناؤها سهُل تقويم السّلوك وتحسينه.
- تقدير قيمة هذه الغريزة بين أخواتها من الغرائز الأخرى؛ قال النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً أَضَرَّ عَلَى الرِّجَالِ مِنَ النِّسَاءِ»[2]؛ ومن قوله يُعلم أنّها خطيرة بالنّظر لعنف ميولها حتى غدت، إن انحرفت، أشدّ ضررا على مستقبل الأمّة ودورها في الشّهادة على الأمم، وأيضا بالنّظر لجسامة مسؤولية الحفاظ عليها، وهذا ما نطق به حديث رسولنا صلّى الله عليه وسلّم: «مَنْ يَضْمَنْ لِي مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ أَضْمَنْ لَهُ الجَنَّةَ»[3]؛ لذلك وجب الانتباه إلى نموّها ومقابلة كلّ مرحلة بما يناسب من التّوجيهات والأحكام.
- الرّفق في معالجة المواقف الجنسية؛ فالطّفل ما دون الخامسة من عمره يسعى دائما لاكتشاف العالم من حوله، فنجده أحيانا يتحسّس أعضاءه التّناسلية ويتساءل عن بعض ما يتعلق بها، بل ونجده يتجسّس أحيانا على الكبار وهم عرايا، فيواجهون مثل هذه المواقف بغلظة وفظاظة يكون لها أثر سيّئ على حياتهم. وما يحتاجه فقط هو الإجابة عن سؤالاته وتفهيمه برفق وعطف أنّ هذه الأعضاء ليس من الأدب مداعبتها أو النّظر إليها عند الآخرين، ريثما يفهم حقيقة الأمر حين تنمو انفعالاته الجنسية بالشّكل الصّحيح.
- تجنّب مثيرات هذه الغريزة داخل الأسرة؛ ففي سنّ التّمييز، حيث ينشغل فكر الطّفل في المحسوس، يستحبّ أن يستقلّ بمكان خاصّ للنّوم غير غرفة الأبوين، وإن تعذّر الأمر حجب بينهما بساتر. فهو مثلا إذا اطّلع على ما يحدث بين الزّوجين في غرفة النّوم شغل كثيرا وتألّمت نفسه؛ لذلك نظّم القرآن الكريم أوقات دخول المميّز إلى حجرة والديه فأوجب عليه الاستئذان في ثلاثة أوقات، وأوجبه على الذين بلغوا الحلم في كلّ الأوقات، قال الحقّ سبحانه: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ»(النّور:58-59).
وهذه الآيات تفيد حكم وجوب تخصيص مكان مستقلّ للنّوم للأبوين أو الزّوجين بقصد التّستّر، وفيه يستريحان ويتخّففان من الثّياب ويقضيان حاجاتهما الطّبيعية. كما تفيد أنّهما وغيرهما من أفراد الأسرة ملزمون بالظّهور بمظهر لائق لا يخدش الحياء أمام ناظري من يساكنهم البيت. ويتعدّى أدب الاستئذان الأبوين إلى كلّ من في البيت إذا خيف في الدّخول عليه هتك ستره. والغاية من هذا كلّه هو تجنّب إثارة الغريزة الجنسية التي قد يضعف الولد أمامها فتفتح له أبواب الفتنة والتّردي في دركات الانحراف والفساد.
- التّفريق بين الذّكور والإناث؛ وليس ذلك على إطلاقه؛ فالتّفريق بين الأبناء في المضاجع مطلوب، فتستقلّ الإناث عن الذّكور في أماكن النّوم، ثمّ يُخصّص لكلّ واحد منهم مضجعه بعد ذلك اتّقاء الأمراض المعدية وتجنبا لكلّ تماسّ قد يوقظ الغرائز ويدفع إلى الانحراف. وقد قرن النبي عليه الصّلاة والسّلام هذا الأمر بالأمر بتعليمهم الصّلاة والحرص عليها، قال: «مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ»[4]. ويفهم من سياق الحديث أنّ التّفريق ينبغي أن يكون في تلك المرحلة من عمر الطّفل. وممّا يلزم الآباء فعله في السنين المبكّرة للأبناء: تعويد الذّكور برفق وتدرّج على ما يفعله الرّجال، والإناث على ما تفعله النّساء، فلا يتشبّه أحد منهم بالآخر لأنّ لكلّ منهما خصوصيته. وينبغي أن يقرنوا هذا التّمرين بالتّربية على قوّة الشّخصية والاعتزاز بالدّين، فصيحات الموضة اليوم لا يقف في وجهها إلا من استصغر شأنها واحتقرها، ولا يكون هذا إلا ممن عظمت طاعة ربّه في قلبه فرجا رحمته وخاف عذابه، عن ابن عبّاس رضي الله عنهما قالَ: «لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المُتَشَبِّهِينَ مِنَ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ، وَالمُتَشَبِّهَاتِ مِنَ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ»[5].
- حفظ العين من مثيرات الرّغبة الجنسية؛ ويكون بإقناعهم وتدريبهم على غضّ البصر عن المحرّمات لأنّه محمدة في المجتمع ومنجاة من الفتن ومن عذاب الله تعالى، وخزّان كبير للطاقة يصرفونها في التحصيل العلمي وبناء مستقبل يعجز أقرانهم من المنحرفين جنسيّا عن إدراكه. وهذا أمر ليس بالسّهل في زماننا هذا حيث تحيط بهم المغريات المتنوّعة من كلّ جانب (الأنترنت- التلفاز- السينما- الكتب والمجلات- الأغاني- الشّواطئ…) لذلك وجب بذل غاية الجهد في التّوجيه والمراقبة منذ مرحلة الصّبا.
- التّنبيه إلى مخاطر الاختلاط وأضراره؛ فقد تيسّرت سبله اليوم في المؤسّسات التعليمية والشّوارع ومواقع التّواصل الاجتماعي، وترك التّوجيه والمراقبة يفضي إلى الوقوع في مساوئه؛ لذلك وجب تربيتهم على اتخاذ مواقف حازمة تجاه كل ما يقود إلى الميوعة والانحلال في المجتمع.
- الحرص على تجنّب الرّفقة السّيّئة؛ قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الرَّجُلُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ، فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ»[6]، وفي قوله سدّ لباب كبير من أبواب الرّذيلة يفتحه قرناء السّوء فيسحبون معهم كل من يصاحبهم. فالصّاحب له تأثير قويّ على صاحبه يسحبه إلى طريقته حيث يزيّنها له، فيسقط في حبائله كلّ من ضعفت إرادته وهزلت قناعاته، وأكثر ما يقع هذا في صفوف الأطفال والشّباب قبل الزّواج.
- تثبيت قيمتي الحياء والسّتر في النّفوس؛ فإذا بدأت أمارات النّضج تظهر فيهم فمن ضرورات التربية الجنسية السّليمة تعليم الذّكور والإناث خصوصا أصول الحياء والسّتر، فمبدأ الفتنة هو النظر إلى المفاتن البادية، والتي تبدي مفاتنها وتتبرّج تفسد في الأرض والله لا يحبّ المفسدين. وإذا أردت أن تقيس سلامة مجتمع ما وتوازنه فانظر إلى درجة الحياء فيه؛ قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «مَا كَانَ الْفُحْشُ فِي شَيْءٍ قَطُّ إِلَّا شَانَهُ، وَلَا كَانَ الْحَيَاءُ فِي شَيْءٍ قَطُّ إِلَّا زَانَهُ»[7].
- بثّ روح الجدّ والصّبر والمصابرة وعلوّ الهمّة في الأبناء؛ فالبدار في استثمار فرصة العمر مطلوب، وصرفهم عن كلّ ما يثبّط العزيمة ويوهن الهمّة يطوي المسافات نحو بلوغ الغايات، وهو أمر مطلوب تخليدا لذكرهم في الدّنيا ورفعا لمقامهم في الآخرة. وما إن يقترب الولد من مرحلة البلوغ وتتحرك غريزته الجنسية وينمو عنده الميول إلى الجنس الآخر، حتّى يكون الوالدين النّبيهين قد حبّبا إليه الصّوم لأنّه فريضة إلهية ووسيلة ناجعة لتنظيم نشاط الغرائز في الجسم ولمّا يحن أوان الزّواج. وأيّ ردّ فعل غير سويّ تجاه نضج هذا الميول فيهم يؤتي ثمارا عكسيّة قد تقود إلى الانحراف.
حاصل الكلام أنّ حاجتنا إلى التّربية الجنسية السّليمة صارت ملحّة، إذ الواقع يشهد أنّ أمّتنا تغيّبت عن أداء دورها في الشهود الحضاريّ لمّا عجزت فئة الشّباب فيها عن الفعل والإنجاز، وما حدث ذلك إلا لأنّ أولوياتها صارت مقلوبة فصارت عندها الأصول فروعا والهزل جدّا والتّافه مُهمّا. وما كان ذلك إلاّ لأنّ الأسرة ومؤسّسات التّنشئة الأخرى، ضعفت أدوارها وسلّمت القياد لأمواج الموضة وسموم الإعلام ففعلت فعلها وأصبحنا عالة نقتات على فتات موائد الآخرين.
[1]– علوان، عبد الله ناصح. تربية الأولاد في الإسلام، ج2، ص499.
[2]– البخاري:5096.
[3]– المرجع نفسه، ح:6474.
[4]– أبو داود، رقم الحديث:495.
[5]– البخاري، الحديث:5885.
[6]– المرجع نفسه، الحديث:4833.
[7]– أحمد بن حنبل، رقم الحديث:12689.