دفع البهتان عن منهج الدليل والبرهان بقلم: عبد المغيث موحد

..والواقع أن أي قذف أو اتهام في حق الحركة السلفية العلمية المسؤولة، هو قذف مباشر في حق تراث الأمة، هذا التراث الذي أضحى ليشكل قشرة سميكة نسجها الجيل الأول حول النص التأسيسي, مما سبب وساهم في رفض أي محاولة وإقصاء أي مجهود ونتاج فكري يشذ عن منهجية القراءة والتفسير الذي وضعه الرعيل الأول لهذه الأمة.

تذكرت وأنا أطالع ما جاء في مقال “رد الإعتبار لحراس المنهج السلفي الأبرار” يوم اجتمعت بخطيب جمعة محسوب على الملتزمين بالسنة ونحن حول مائدة شاي غير متواضعة إذ بالضافة إلى الشاي كانت هناك حلوى ولحم ودجاج ونحن نتجادب أطراف الحديث وثلابيب الكلام، الذي اتخذ أشكالا أفقية وأخرى عمودية، دار في خلدي أنها فرصة لمحاورة الرجل فكثيرا ما سمعت عنه وعن فقهه وصدعه بالحق، فكـَلَّمتُه عن الإتهامات التي تكال للحركة السلفية المباركة, ففاجأني بقوله الذي لا يزال تأثير صفيره على أذني باديا: “إنه كان ولا يزال ينظر إلى ما يصطلح عليه بالسلفية مجرد ظاهرة سيأتي يوم وإن طال الأمد لتتحول من عين إلى مجرد أثر، كما كان شأن العديد من المناهج الدخيلة”، والواقع أن الرجل كان يتكلم بحزم ويقينية بل ظننت أنه ربما نسي أن يستدل في هذا الباب أو إن شئت فقل هذه النافذة بآيات من الذكر وجوامع كلم من السنة, وأنا أستمع له ترجحت عندي ونحن في مناسبة زفاف خشية من أن يقع ما يعكر صفو النفوس ويعقد الموقف ولعلي يومها سلكت مسلك حمل الكلام محمل الأعذار، فقد تكون كثرة الطعام أفضت إلى بطنة أذهبت الفطنة، أو قد يكون الخطيب قد اختلط عليه الأمر فتوهم أن المنهج السلفي ليس إلا جماعة يؤثث سقفها شباب يوزعون عبر نظراتهم الثاقبة تأشيرات الجنة والنار، ومنحة الإيمان ومحنة الكفر، واستحلال الدم أو حرمته، واقتناص حق العقاب خارج منظومة الشرع والقانون, بل ربما يكون الرجل قد عالج موضوع السلفية كدين جديد، جاء ليُدخل الأمة أتون الفتنة وهي تطرق باب الحداثة دينا ودنيا ليجتمع شملها وتتوحد أركانها، مما ساعد في إغراقها في سبل الفرقة والتناحر والتدابر, وربما يكون كلامه وليدا شرعيا لانتصار الذات وتغذية الإنية، زد عن هذا وذاك احتمال أن يكون الرجل فريسة سوء فهم لمحكمات تأكدست بميراث من المعتقدات والمفاهيم التي اختلطت فيها أسباب الفرقة والشقاق من بدع وأهواء.
والحقيقة أنني مع تزاحم الأعذار كنت شاردا متعجبا إذ أن التسليم بما قاله الرجل وهو يساكننا خندقا واحدا فيه ما فيه من الخنوع والإستسلام لما يروج له جيل القنطرة من العلمانيين وأشباههم من الجيل الجديد، الذين أخذوا على عاتقهم مسؤولية تلميع صورة المسلم وتحريك مشروع إلباس الإسلام جبة التطور ولباس الموضة.
والواقع أن أي قذف أو اتهام في حق الحركة السلفية العلمية المسؤولة هو قذف مباشر في حق تراث الأمة، هذا التراث الذي أضحى ليشكل قشرة سميكة نسجها الجيل الأول حول النص التأسيسي مما سبب وساهم في رفض أي محاولة, وإقصاء أي مجهود ونتاج فكري يشذ عن منهجية القراءة والتفسير الذي وضعه الرعيل الأول لهذه الأمة، حسب تعبير وزعم العديد من مجتهدي الحداثة: أهل الحل والعقد الجدد، الذين يفضل معظمهم التعاطي لنصوص الكتاب والسنة كمادة شعرية خام، بيتها مُشرَع الباب أمام كل زائر ومقيم، وهم بين الفينة والأخرى يتساءلون عن سر هذه “الطابوهات” التي نصبها الفقيه السلفي كهالة تحتكر الحق في ملكية النصوص، ملكية مطلقة تحول بينهم وبين أمنية تطويع الشرع بين فكَّي المصلحة الشخصية والضرورة الواهية.
ثم إن الاسترسال في ذكر ما يكال من التهم والإفتراءات والشبه الجاهزة للانقضاض عن براءة هذا المنهج وأهله قد لا ينبلج لوقوب غسقه فجرا, ولكن ومع الإقرار بضرورة المواجهة قد لا يحتاج المرء إلى أن يشمر عن السواعد لاستئصال شأفتها، لأنها ولا شك ولدت وهي تحمل بين حشاياها ما سيكفل بفنائها مصداقا لقوله تعالى:”فََأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ”.
ولكن بقدر ما لا يحتاج المسلم إلى عملية التشمير تلك، فإنه مطالب بالعمل على إحياء ذهنية المتلقي المغيبة بالفعل السواتر الوهمية، والفواصل اللاهية، التي تحول بينه وبين معرفة الحق والإنتماء لأهله وتلقي الحكمة والانتفاع بها, ولعله من الحكمة وبالتي هي أحسن التسليم بالطرح الذي ينظر إلى المنهج السلفي من زاوية كونه مشروعا يحيلنا على طريقة تدين جيل القرون الثلاثة المشهود لها بالخيرية والتميز, فالسلفية إذن ليست دينا جديدا بقدر ما هي منهج يصبو إلى تجديد الماضي عن طريق إعادة تشكيل وتأثيث الحاضر الديني والدنيوي بما عاشه جيل الأمة الأول الذي نهل من المنابع الصفية، وأخذ عن النبي عليه الصلاة والسلام بالدرس والتلقين والمشافهة, فهي إذن ليست إلا رمادا مخلص لبؤرة الموقد إن صح التعبير، أو هي قراءة تاريخية مدفوعة بهواجس الحاضر وبتوجيه من مشاغله وقضاياه، هدفها الفهم والمعرفة من أجل مواجهة حالة الفوضى والإنحطاط المادي والروحي الذي بات يجثم على أنفاس عامة المسلمين وخاصتهم.
وعليه قد يجد المرء نفسه مستغنيا على الدفاع عن رواد المنهج السلفي المعاصرين وذلك لأمور:
أهمها من جهة ما تميز به اتجاههم الدعوي وفكرهم الإصلاحي، الذي جاء معتمدا على أسلوب التخبير عن جيل الصحابة والتابعين، ومن ثم فالدفاع المشروع يستقرئه المرء من حياة ة سلوك جيل الأعلام الذي تخرج من مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم، وأخذ عنه يقظة “لا مناما”، وعليه فأي نبز أو بهتان جرى به لسان الرافضة الجدد هو اجتراء ليس في حق المعاصرين بل هو في حق الذين تركهم سيد البشرية على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.
ومن جهة ثانية: لا نملك إلا أن نقول أن للمسلم كامل الحق للنهل من تراث حضارة الأسلاف، وذلك لما يملكه من مبررات نقلية وعقلية وواقعية, فعلى الأقل لا يجد العاقل أدنى حرج في العودة إلى تاريخ الأعلام يوم كان الواحد من ذلك الرعيل يقرأ القرآن ويسمع الحديث بشعور التلقي الباعث على التنفيذ، فكان أن فتح الله لهم بهذا الحس والشعور آفاقا من العلم والمعرفة والأخلاق، ما كانت لتفتح لهم لو أنهم طرقوا أبواب كسرى وهرقل أو لهتوا وراء همٍّ دنيوي صرف.
وهاك إشارة تغنيك عن العبارة: إن رواد الفكر السلفي اليوم وحين يهتمون بسيرة عمر بن الخطاب مثلا، لا يلتفتون إلى الرسم من قامة وهامة ومنكبين، إنما ينحصر همُّهم في التأريخ لعنصر العدل في أبهى صورة في التاريخ الإنساني وليس التاريخ الإسلامي وحسب، تلك الصورة التي بناها صاحبها على أساس اتباع سنة إمامه المصطفى صلى الله عليه وسلم، وهم بذلك يرفعون لواء التحدي بهذا النموذج في وجه ما راكمته المدنية من أساطير وأباطيل وزيف, وهم من خلال نماذج أخرى وما أكثرها لا يسعون إلى ابتداع دين جديد أو يؤصلون لجماعة تحجر واسعا وتقيد مطلقا، فهم يعلمون علم اليقين أنه لا جماعة إلا جماعة المسلمين، وأنه ما لم يكن أيام رسول الله عليه الصلاة والسلام دينا فهو اليوم كذلك ليس بدين.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *