كثير من الذين يسبحون بحمد المواقع الاجتماعية يتحدثون عنها مقرونة بإنجازات ساهمت فيها أو يسرتها تلك المواقع؛ فما يفتأ لسان بعض محبي أو مدمني هاته المواقع يثني عليها بكرة وعشيا، حتى رسخت تلك المحامد والمآثر في ذهن ولاجيها، ولا يلجونها إلا ولسانهم يلهج بذكر تلك الأمداح والمفاخر.
وإذا كان الإنصاف يقتضي الإقرار بالدور الإيجابي لهاته المواقع؛ فإن ذلك لا يعني عمى بصيرتنا عن إدراك الدور السلبي والمخاطر المتعددة التي تهدد مدمني تلك المواقع، سيما المتعلمين وطلبة العلم الذين تراجع تحصيلهم بسبب إدمان هاته المواقع وصرف الاهتمام والوقت لها.
ومقارنة بسيطة بين حال المتعلم في سنوات قريبة خلت وحال المتعلم بعد ظهور هاته المواقع تظهر لنا ذلك البون الشاسع في التحصيل الدراسي؛ فقد كان المتعلم قبل ظهور هاته المواقع جل همه منصبٌّ على الإعداد لدرسه والتحضير له والنظر فيه قبل اللقاء بمعلمه، ثم مراجعته بعد الانتهاء من دراسته والنظر فيه للتأكد من سلامة فهمه، كان كل ذلك يوم لا: “فيسبوك، ولا تويتر، ولا يوتيوب” أما بعد ظهورها فقد تحول كثير منهم من: “متعلمين” إلى “فيسبوكيين”، وصاروا لا هم لهم ولا حديث إلا عما يتداول في هاته المواقع، وما يجري فيها من أحوال وأخبار وما ينشر فيها من أسرار، وأصبح الشغل الشاغل هو إدمان النظر في هاته المواقع أوقات الفراغ؛ وأدى ذلك إلى إهمال التحصيل والاكتفاء بالساعات المحددة للحضور الإجباري في القسم، ولم يقتصر الانشغال بهاته المواقع بحالات ولوجها والساعات التي تقضى فيها؛ بل إن عددا منهم يقضي أوقاتا من التفكير فيها وفيما جرى وسيجري فيها وهو عنها بعيد، تخاطبه وإحساسك يقول: “ما تخاطب من أجساد لا أرواح لها”.
وهذا شاب عرف عنه الجد والتحصيل واستثمار الوقت فيما ينفع، ولا مكان للهو وتضييع الوقت في حياته في السمر والقيل والقال؛ لكنه كان كذلك قبل أن يسقط في الخانتين التي يضع في إحداهما معرفه الشخصي وفي الأخرى رقمه السري، ثم يدخل عالمه الخاص الذي ينسيه هدفه ورغبته وما يسعى من أجله، وتبدأ خطواته في الإدمان شيئا فشيئا تتقدم كل يوم بدقائق إلى أن صارت ساعات ثم ليالي وأياما، فانقطع عن علمه وكده وجده وانخرط في عالم وهمه أغواه فيه إبليس، ويصحو ضميره وتلومه نفسه أحيانا على ما ضاع من وقت وانفرط من عمر؛ لكنه سرعان ما يجد التبرير والتسويف الذي يسوغ له الزيغ والاسترسال في عالمه؛ فلا يستفيق إلا وهو مدمن يصعب عليه الإقلاع ويمر عليه اليوم عسيرا إن هو لم يقض الساعات الطوال في القيل والقال إن في الحلال أو الحرام، وانقلبت ساعات البحث عن الدقائق والفرائد والفوائد إلى ساعات للبحث عن الخصوصيات والتنقيب عن الهوايات والأسرار، وبعد أن كانت العين تحمر من النظر في صفحات كتب صفراء أو بيضاء صارت اليوم تحمر من النظر في صور ترضي الشيطان وتغضب الرحمن، وبعد أن كان يلاحق فرائد ويقتنصها ويحرص على تدوينها أصبح اليوم يقتنص حواء؛ ويسجل ما توفر من بريد أو رقم هاتف، ويتعب في التسجيل كما كان يتعب من قبل في التحصيل؛ لكن شتان بين التعبين “فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه”.
وفي خضم هذه التحديات يجدر بطالب العلم الذي منَّ الله عليه بنعمة العقل، أن تكون لديه رؤية ناضجة في كيفية التعامل مع هذه المواقع قبل أن تفسد عليه دنياه وأخراه، ومواجهة تحدياتها تتطلب صبرا وثباتا للسلامة من آفاتها وتجنب شرورها.
توضيح لابد منه:
التحذير من خطر هاته المواقع لا يعني هجرها كلية أو تطليقها طلاقا بائنا؛ فلابد من حضور طلبة العلم الذين يمتلكون الزاد للتصدي لأهل الغواية والضلال من المنحرفين الذين ينتشرون على تلك المواقع؛ سيما في تلك المواقع التي تصدر فيها الرويبضة يتحدث في شأن العامة.